جمال صانع مصائد الفئران: كل واحد يبحث عن مصيدته

ورث المهنة عن والده.. ويشكو من منافسة الصينيين لبضاعته

جمال صانع مصائد الفئران داخل ورشته («الشرق الأوسط»)
TT

«مصائب قوم عند قوم فوائد»، مقولة يؤمن بها كثيرون.. لكنها لدى جمال عبد اللطيف، صانع مصائد الفئران، مقولة ذات طبيعة خاصة. ذلك أن جمال يعتمد في رزقه على كثرة الفئران في المنازل وأماكن العمل، وبالتالي، ينظر إلى الحياة من نافذة معادلة شديدة الغرابة مفادها أنه كلما ازدادت أعداد الفئران ازداد الطلب على ما يصنعه من مصائد لها.

في ظل هذه المعادلة يجلس جمال (40 سنة) في ورشته البسيطة بحي باب الخلق، في العاصمة المصرية القاهرة، منتظرا أن تنفتح أبواب الرزق، لافتا إلى أنه تعلم المهنة وورثها عن والده - رحمه الله - منذ صغره. وحسب كلامه كان يخرج يوميا من مدرسته في حي الدرب الأحمر متوجها إلى ورشة والده، ويساعده في شراء احتياجات الصنعة من حديد سلك وصاج وأدوات لحام من منطقة الرويعي بحي العتبة. واستمر على هذا الوضع لسنوات طويلة يراقب والده حتى «شرب منه الصنعة»، حسب تعبيره. ومن ناحية ثانية، بجانب تصنيعه مصائد الفئران كان والد جمال يصنع أيضا شوايات الفحم المنزلية بكل الأحجام والأشكال، ومن ثم تعلم جمال أيضا منه صناعة الشوايات ومصائد الفئران، غير أن شهرته المحلية جاءت بالمقام الأول من تصنيع المصائد.

خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» روى جمال تجربته مع المهنة قائلا «عرفت من والدي أن صناعة مصائد الفئران يرجع تاريخها لعصر المماليك، كما أنني تعلمت من والدي أيضا إتقانه العمل وبدء ساعات عمله مبكرا. فقد كان يفتح الورشة في السابعة صباحا، ويستمر فيها حتى غروب الشمس، وهو ما أكرره الآن وأسير على دربه في كل شيء. وأنجز في اليوم الواحد تصنيع دستة شوايات وثلاث مصائد، ومن الممكن الاستعانة بصنايعي مقابل أجر 30 جنيها في اليوم إذا كان حجم الشغل كبيرا. ولدينا حاليا طلبية جرى التعاقد عليها من قبل موزع جملة لشوايات الفحم ومصائد الفئران. وفي بعض الأحيان يحدد الزبون شكل المصيدة بنفسه أو الشواية ولونها، سواء كانت بيضاء أو صفراء وعدد فتحات الدخول بالمصيدة».

وحول طريقة صناعة المصيدة، أوضح جمال قائلا «تبدأ عملية صنع المصيدة بتقطيع أسلاك الحديد إلى أجزاء بمقاسات معينة، وبالمثل قطع الصاج، وقبل ذلك لا بد من أن تجرى عملية (الجلفنة) باللون الأصفر الذهبي أو يبقى السلك على لونه أبيض، ويبدأ اللحام بالنار أو بواسطة لحام كهربائي. وعند التقاطعات يتم وضع (سوست) صغيرة»، يتولى جمال تصنيعها أيضا، وهي بمثابة مفاصل المصيدة، وتعتبر كل مصيدة مخصصة للقبض على فأر واحد والتخلص منه، ثم معاودة فكرة الحبس لفار آخر، وهكذا.

ويعتبر جمال فكرة حبس الفأر في المصيدة «فكرة عبقرية» لمن فكر في صناعة المصائد منذ البداية «فهي تعتمد على إغراء الفأر بأي شيء يحبه يصار إلى وضعه داخل المصيدة، ومن ثم بمجرد اقتراب الفأر ودخوله المصيدة يغلق الباب تلقائيا عليه، فلا يعود الفأر قادرا على الخروج منها من دون مساعدة من أحد».

وعن الأوقات التي يزداد فيها الإقبال على طلب المصائد والشوايات، قال جمال «بالنسبة لمصائد الفئران يزداد الطلب عليها في شهور الشتاء لأنها موسم ولادة الفئران، في حين يزداد الطلب على شراء شوايات الفحم بكثرة في شهر رمضان وفترة عيد الأضحى، وفي ما يتعلق بالأسعار، فهناك نوعان من المصائد، النوع الصغير بـ4 جنيهات والكبير بـ25 جنيها، أما الشوايات فتتراوح أسعارها ما بين 5 جنيهات و15 جنيها».

على صعيد آخر، يشكو صانع مصائد الفئران من «مزاحمة التكنولوجيا» له، مما أدى إلى تراجع الطلب على المصائد، خاصة في الآونة الأخيرة لدرجة أنه بات من الممكن أن يصنع كميات من المصائد والشوايات ولا يشتريها أحد. وهنا شرح بمرارة «لقد اتجه البعض لشراء مصائد الفئران الصينية، وكذلك شوايات الفحم الصينية بسبب رخص أسعارها.. لكنني أحذر الناس من التعامل معهما وشرائها بسبب عيوب في الصنعة، ثم إنها مطلية بمواد كيميائية سامة». وتابع «للأسف الشديد سمح النظام السابق بتداول واستيراد مثل هذه المنتجات المعيبة، ولا سيما خلال السنوات الست الأخيرة من حكم (الرئيس السابق حسني) مبارك، وما زالت هذه المنتجات موجودة في الأسواق المصرية، وهو ما يهدد مهنتنا بالانقراض».

وحول ذكرياته مع الصنعة، قال جمال إنه يتذكر جيدا «أيام رمضان في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حين كنت أرى أبي يعمل حتى قرب صلاة المغرب ومدفع الإفطار، وبعد صلاة التراويح كان يأتي مجددا إلى ورشته لإكمال ما تبقى من عمله. وكان حاله هو حال جميع أصحاب الورش في منطقة (تحت الربع وسوق السلاح وباب الخلق)، ولكن اليوم تبدل الحال، وتراجعت كل الحرف اليدوية، لدرجة أن عددا من أصحاب الحرف اليدوية، ومنهم صناع مصائد الفئران والشوايات غيروا تخصصهم.. ولجأوا إلى مزاولة تخصص آخر في محلاتهم».

مع هذا، يفخر جمال بأنه يحب مهنته، ويؤكد أنه يحب القراءة، وأنه «مثقف» على طريقته الخاصة، مشيرا إلى أن «الحياة عبارة عن مصيدة». وعلى حد قوله «كل واحد له مصيدته». ويضيف بابتسامة حانية «فيه ناس بتحب الحبس اللذيذ داخل المصيدة، وفيه ناس بتحاول تفلت من الطعم وتكسر جدران المصيدة.. هذه سنة الحياة». غير أنه على الرغم من حبه لمهنته، قال صراحة إنه مستعد لترك المهنة أو تغيير نشاطه إذا وجد فرصة عمل مناسبة، ورفض تماما أن يعمل أولاده في المهنة مثلما ورثها هو عن أبيه.