عمارة «تيرينغ».. تحفة أثرية بقلب القاهرة تتوارى وراء الزحام والإهمال

شيدها معماري يهودي قبل 117 سنة.. ولا تزال تحمل اسمه

تتسم عمارة «تيرينغ» بطرازها المعماري الأوروبي.. واسمها المدوّن عليها («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من كونها تحفة معمارية نادرة، فإن من يمر أمامها قد لا يلاحظ عليها ذلك، ذلك أن ازدحام «ميدان العتبة»، في قلب العاصمة المصرية القاهرة، بالباعة الجائلين والمترددين عليه جعل «عمارة تيرينغ» - كما تُعرَف - تبدو في خلفية المشهد وكأنها مجرد عمارة سكنية تقليدية، ناهيك بمظاهر الإهمال الطاغي عليها.

تتسم هذه العمارة بطرازها المعماري الأوروبي واسمها المدون عليها، أما أكثر ما يميزها فهو الشكل المجسم الذي يعلوها، والذي يأتي على شكل كرة تحملها 4 ملائكة. وفي مشوار مع هذا المعلم المعماري الفريد، نشير إلى أن العمارة صممها عام 1895 أوسكار هورويتز، وهو معماري نمساوي يهودي كان له عدد من الأعمال التصميمية في القاهرة، من أبرزها فيللا علي إبراهيم باشا وعمارة الإيموبيليا. أما مالك العمارة فكان الثري اليهودي فيكتور تيرينغ، المولود في إسطنبول (القسطنطينية) الذي كان يطمح إلى أن يحاكي فنادق «سيزار ريتز» في أوروبا، ولقد وقع اختياره على منطقة العتبة الخضراء، في وسط القاهرة، لكونها تربط بين القاهرة القديمة والجديدة، كمكان لبناء عمارته.

من ناحية ثانية، عاش الكثير من اليهود في العمارة، لذا أطلق عليها قديما لقب «عمارة اليهود»، غير أنها بدأت تتحول إلى ما هي عليه الآن من الإهمال بعد قيام ثورة يوليو (تموز) 1952، عندما استولى عليها مجموعة من واضعي اليد الذين بادروا إلى تحويلها لمحال تجارية وورش صغيرة ومخازن للبضائع، مما ساهم بشكل كبير في طمس هويتها وقيمتها الأثرية المهمة.

مع هذا، على الرغم من وضع العمارة السيئ، الذي يعكس إهمال معالم أثرية متميزة، فإن عمارة «تيرينغ» كانت تنافس في هندستها المعمارية معرض «لافاييت» الذي يعد تحفة تجارية - معمارية فرنسية ما زالت قائمة حتى الآن.

تتكون العمارة من خمسة طوابق - كانت تستغل قديما في عرض المنسوجات النمساوية والأدوات المنزلية الألمانية والعطور الباريسية، وهو ما تغير الآن تماما. إذ تحولت العمارة إلى مخازن لمتاجر الملابس المنتشرة في منطقة الموسكي التجارية وورش صناعة الملابس الجاهزة.

ويرصد أحد تجار الموسكي حال «تيرينغ»، بقوله: «هيئة العمارة من الخارج لا تشير بأي شكل من الأشكال إلى كونها أثرية، فالباعة الجائلون منتشرون بكثافة حولها من جميع الاتجاهات، كما أن أسفل العمارة محاط بعدد من محلات الملابس والمقاهي الصغيرة والمحلات التجارية المختلفة». أما مبناها من الداخل فهو مهمل بشكل ملحوظ، إذ إن النوافذ الخشبية الكبيرة محطمة، والقمامة منتشرة في كل طابق من طوابقه. وأما سلالم (درج) العمارة، فهي خشبية على الطراز القديم، ويوجد فيها مصعد واحد متهالك، في حين أن سطحها يعتبر بحق مكمن الأساطير المنتشرة حولها، ذلك أنه خلف الكرة التي تعلوها توجد حجرة مغلقة بالسلاسل والأقفال، يردد العاملون في العمارة عددا من الروايات حولها.

ويروي أحد سكان العمارة القدامى، أنه عندما جاء إليها منذ ما يقرب من 50 سنة، كان هناك حبل غليظ بجوار تلك الحجرة، وكانت شائعات ترددت عن أن بعض سكانها كانوا يستخدمونها في شنق من ينشق عنهم، مستدركا «لكنها، طبعا، مجرد تكهنات أو شائعات.. وليس لدينا ما يثبت صحتها».

ثم أضاف «العمارة الآن يملكها أحد المصريين، وهو يمتلك عمارات سكنية أخرى في منطقة وسط البلد، وهو نادرا ما يأتي إلى العمارة لتحصيل إيجاراتها». وأردف أنه «لا يوجد سكان مقيمون في العمارة حاليا، بل هي عبارة عن ورش ومحلات فقط.. وكل الموجودين فيها هم عمال وليسوا سكانا يسكنونها».

أما محمود حسين، الذي يقطن العمارة منذ ما يزيد على ستين سنة، فذكر لـ«الشرق الأوسط» أنه جاء إليها وهو طفل صغير، وتعلم مهنته «ترزي ملابس» (خياط) على يد واحد من السكان اليهود الذين كانوا يقطنوها، موضحا أن «المبنى مسجل بالآثار، كما أن مسؤولي المحافظة على أوقات متفرقة يأتون لطلاء واجهاته». ثم شرح موضحا «الدور الأول في العمارة حاليا تابع لشركة أدوية، أما الثاني فيحتوي على عدد من محلات بيع المنتجات الجلدية، في حين تنتشر محلات بيع الملابس وورش تصنيعها في باقي الأدوار (الطوابق)»، مؤكدا أن الزبائن يأتون إلى العمارة لشراء الملابس نظرا لأنها معروفة للكثير منهم.

والتقينا محيي الدين منصور، (62 سنة)، الذي قال إنه جاء إلى العمارة عام 1977 مع أخيه، وفيها تعلما مهنة تفصيل الملابس، ومنذ ذلك الوقت وهو يقطنها، متابعا «لا أعرف عن العمارة أي شيء سوى أنها أثرية، وجرى فيها تصوير عدد من الأفلام السينمائية».

ومن جانبها، قالت «مدام ماري»، التي تعد من أقدم المرتبطين بالعمارة، إنه لا يوجد في عمارة «تيرينغ» أي أجانب في الوقت الحالي، وتلفت إلى أن العمارة لا يوجد مثلها سوى ثلاث عمارات في العالم، كما أن الأجانب وعددا من الفنانين الفوتوغرافيين يأتون من حين لآخر لتصويرها.