محترَف خليفة للزجاج المنفوخ في جنوب لبنان.. تراث يقاوم الانقراض

مهنة توارثها الآباء والأبناء من جيل إلى جيل

علي خليفة ينفخ في الزجاج («الشرق الأوسط»)
TT

وحدها مدينة سربيتا الفينيقية، التي تعرف حاليا ببلدة الصرفند الواقعة بين مدينتي صيدا وصور على ساحل جنوب لبنان، لا تزال في لبنان تشتهر بصناعة الزجاج اليدوي بالنفخ.

المهنة هنا يزيد عمرها على 1700 سنة، ولقد اقترن اسم البلدة تاريخيا بها، بعدما تعلم الفينيقيون أسرارها من المصريين القدامى، الذين اشتهروا بفنون صنع الزجاج، قبل أن ينقلها عنهم جيرانهم الفينيقيون ويمارسونها في صيدا وصور، على الساحل الجنوبي للبنان، حيث حطوا رحالهم.

غير أن هذه المهنة غدت اليوم إحدى المهن النادرة، وبالتالي المهددة بالانقراض، ليس في الجنوب اللبناني فحسب بل في عموم لبنان. ذلك أن نجمها أفل بعدما انتشرت لفترة منطقة البداوي، قرب مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان. لكن معمل البداوي أغلق منذ بعض الوقت، متأثرا بتقهقر هذه الصناعة التراثية، لجملة من الأسباب، منها: الأحداث الأمنية التي خربت المصانع، وإدخال التقنية المتطورة القادرة على تأمين كميات كبيرة من الإنتاج الزجاجي وبسرعة، ثم هناك غياب الدعم الحكومي، فضلا عن غلاء المواد الأولية، وتواضع سوق التصريف مقابل ارتفاع حظوظ الزجاج المستورد. وبالنتيجة، صمد معمل الصرفند بمفرده رافضا الاستسلام رغم قلة الحيلة والموارد. حسين خليفة، الحرفي الصرفندي، الذي التقته «الشرق الأوسط» في حوار، داخل محترفه الصغير، الذي يضم المعمل والمعرض الذي أقامه لإنتاجه، بادرنا قائلا: «لقد ورثناها منذ عقود طويلة من الأجداد الأوائل إلى الآباء، واليوم يعمل فيها معظم أفراد العائلة. والدي وشقيقي وعمي وأولاده. إنها مهنة الرجال بامتياز.. نظرا لحاجتها إلى القوة والصبر وتحمل شدة نار الفرن، وهذا بجانب الكثير من الدقة والحذر». وأردف: «تعلم هذه المهنة يتطلب مهارات تدريبية تستغرق نحو 5 سنوات، وهي تعتمد على العمل الجماعي المتكامل. نحن هنا أكثر من 10 أشخاص نعمل معا، ونقسم العمل بهدف إنتاج هذه التحف الزجاجية المتعددة الأشكال والألوان، والمخصصة إما للاستعمالات اليومية وإما للزينة».

المحترف المتواضع القابع في وسط الصرفند، إلى الشمال من مدينة صور، يعمل فيه مع حسين أولاد عمه الحرفيون محمود وعلي وعباس خليفة. أما عملية النفخ فهي عملية غاية في الصعوبة نظرا لاضطرار الحرفي للجلوس قرب الفرن لساعات أمام حرارة تصل إلى 1400 درجة مئوية، جالسا على كرسي منخفض من القش يسمى «طبلية»، عاقدا على جبينه رقعة من القماش لامتصاص العرق الذي تسببه الحرارة العالية. وهو يعمل ممسكا بعصا حديدية مضادة للتأكسد ذات مقبض خشبي يدخلها إلى الفرن ويذيب الزجاج الدائري الشكل، ثم ينفخ فيه مرات عدة، فينتفخ الزجاج ويتمدد، وعندها يصار إلى إعطائه اللون المراد من خلال إضافة أكسيد معين. وبعد ذلك يحين وقت صنع العنق ووضع المسكات بطريقة هندسية تختلف من قطعة إلى أخرى إلى حين انتهاء العمل.

وبعد الانتهاء من تصنيع القطعة، فإنها توضع في ممر مقفل طوله 4 أمتار، هي الطريقة التقليدية المتبعة للتبريد التدريجي للزجاج، وفي ذلك يشرح محمود خليفة: «إذا أخرجنا القطعة إلى الخارج مباشرة، فهذا يعني أننا ننقلها من درجة حرارة 700 مئوية إلى 20 درجة مئوية فتتحطم خلال ثوان. لذلك لا بد من تمريرها على مراحل تبريد من 500 درجة، إلى 400، وصولا إلى الـ100، قبل نقلها إلى الخارج ووضعها في الماء لتصبح بعدها زجاجا نقيا جاهزا للعرض. وتستغرق كل مرحلة ساعة لإنجازها».

داخل محترف خليفة يستقبل الزائر فضاء فني مصنوع بلغة الزجاج المنفوخ بأشكال وألوان متعددة، ويمكنه ملاحظة الفن والإبداع في التحف بشكل يومي، بفضل التصاميم الجديدة والمبتكرة التي تناسب جميع الأذواق، ومنها قطع البلور المزركشة بألوان الأرجوان، وإلى جانبها الأباريق الخزفية والمناضد والكؤوس من مختلف الأحجام وزجاجات النارجيلة (الشيشة) والقناني الملونة والمزهريات البديعة المتناسقة الأشكال والألوان. مهرجان حقيقي من الألوان، فسيفسائية وشفافة، منها الأبيض المتقن والأحمر والأصفر والأزرق والأخضر والعسلي، يحرص أصحاب المعمل على إحضار صبغتها «الأصلية» من ألمانيا. وقال عباس خليفة لـ«الشرق الأوسط» إنه «بخلاف المصانع الحديثة التي تعتمد على قوالب جاهزة، تمتاز عائلتنا بالقدرة على إنتاج الأشكال المختلفة، وتنفيذ أي شكل يرسم على الورق، ومن هنا تأتي إمكانية التفنن في المهنة.. ولهذا السبب صار مهندسو الديكور من أبرز زبائننا، فنحن إذا مزجنا بين الأشكال والألوان استطعنا أن نقدم أنواعا متعددة للسوق».

في الواقع، تعد هذه المهنة صديقة للبيئة، وذلك لاعتمادها على مخلفات الزجاج كمادة خام أساسية، إضافة إلى بعض الأصباغ والملونات، علما بأن الزجاج الخام يعتبر المادة الصناعية الأقدم تاريخيا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن معروضات عائلة خليفة ما زالت محافظة على الإبداع والميزة البراقة لتمسكها بالطريقة الفينيقية القديمة نفسها في غابر الأيام، إلا أن لكل من حرفيي العائلة مهاراته الشخصية وطريقته الخاصة التي يمتاز بها، وبالتالي، فهم يعملون وكأنهم في فيلم استعراضي لنفخ الزجاج.

جدير بالذكر أن عائلة خليفة شاركت في عدد كبير من المعارض داخل لبنان وخارجه، أبرزها «معرض العالم العربي» عام 1999 و«معرض مونبلييه» عام 2001، وكلاهما نظم في فرنسا، بجانب معارض أخرى في دبي وألمانيا. أما عن المشاركات داخل لبنان، فشملت «معرض ذوق مكايل» ببلدة ذوق مكايل شمال بيروت في سوق البلدة القديمة، وفي مركز «سيتي مول» في بيروت نفسها.

من ناحية أخرى، فإن نحو 50 في المائة من زبائن هائلة خليفة أفراد يحضرون تصاميمهم معهم، ومعظمها مستوحى أو مستمد من صور الصحف أو المجلات أو ديكور الأعراس، أما باقي الزبائن فمن مهندسي الديكور ومتعهدي الحفلات والأعراس والمطاعم والفنادق، ولكل من هؤلاء تصاميمه المبتكرة والخاصة به، وعن الأسعار، قال حسين: «تتراوح الأسعار ما بين 4 دولارات للقطعة و500 دولار أميركي.. طبعا وفق الطلب والنوع والحجم».