تونس: الكتابة على جدران المؤسسات.. بين قلة الإدراك والعبث

البعض يراها انعكاسا لأزمات نفسية وأخلاقية

متطوعون يزيلون الكتابات من على الجدران («الشرق الأوسط»)
TT

لا تخلو مدرسة أو معهد؛ بل الأحياء السكنية، من الكتابة على الحيطان.. بعضها يعد من أشكال التلوث الذهني والبصري والإيذاء المعبر عن تدن في مستوى الفهم والإدراك والثقافة المدنية، فضلا عن الثقافة الذاتية التي تدعو إلى إماطة الأذى عن الطريق.

بعض الكتابات تعبير عن مراهقة منفلتة؛ كأن يكتب الطالب أو غيره اسمه واسم من يحبها من الفتيات بالكامل أو الإشارة إلى الحرفين الأولين من اسميهما، أو يقوم طالب باتهام شاب وفتاة بوجود علاقة غير عادية بينهما فيكتب اسميهما نكاية في أحدهما أو في الاثنين معا.

وقال الطالب نادر القيزاني لـ«الشرق الأوسط»: «هناك أشكال تعبيرية كاللوحات الجدارية، وهناك كتابات أخرى، وليس كل الطلبة سواء»، وتابع: «هناك من يريد التعبير عن مشاعره حيال فتاة يحبها»، ونفى أن يكون هناك من يكتب من باب التشهير، لكنه اعترف بأن الطالب في هذه الحالة يرتكب خطأ «لأنه يكتب على جدار لا يملكه؛ بل هو ملك عام»، ودعا لاعتماد التوجيه والتربية وليس الزجر والعقوبة في المرحلة الأولى.

الطالب عبد الرحمن حلوس، نفى أن تكون هناك كتابات على الجدران ما عدا الرسوم الجدارية، وعندما واجهناه بالصور، أفاد بأنه لم يطلع عليها وأنه يتحدث عن معهده، الذي كان في الحقيقة لا يختلف عن غيره من المؤسسات التعليمية. وعندما سألناه عن مغزى الكتابة بالفرنسية بدل العربية، أجاب: «نراها أزين (أجمل)»، لكن سرعان ما ارتقى وعيه: «تربينا على هذه النظرة، التي هي بالفعل تكرس الدونية، ولا بد من تغيير هذه العقلية المريضة بالآخر، وإن شاء الله تنصلح.» بعض الكتابات لها خلفية سياسية، أو مستوحاة مما يعرض في التلفزيون ومن تصريحات بعض السياسيين، كقول رئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي: «أغلب عناصر الأمن قرودة( قرود).» وقد لاحظنا هذه العبارة على مدرسة الباطن (142 كيلومترا جنوب غربي تونس). وقد قامت جمعية «البر والتعاون» الخيرية بطلاء الجدار ومسح تلك العبارات في إطار حملة نظافة.

أما الكتابات الحائطية داخل الأحياء السكنية، فهي نسخة مما تحذر منه (القمامة) حيث لا توجد حاويات ولا أثر للبلديات: «الله لا ترحم والدين من يضع القمامة هنا»، ولكن الكثير من الكتابات تنبئ بجهل أصحابها بقواعد اللغة العربية، فغالبا ما تكتب هذه العبارة بطريقة غير سليمة من الناحية الإملائية.. غير أن ذلك لا ينطبق على جميع المدن، فهناك عبارات مهذبة (نسبيا): «الرجاء عدم وضع الفضلات (القمامة) في هذا المكان». أما في أماكن أخرى، فنجد عبارات تثير الاشمئزاز والسخرية في الوقت نفسه مثل: «الرجاء عدم رمي الفضلاء، هنا «ويعنون» القمامة.» وقال مختار السهيلي، مدير معهد ثانوي، لـ«الشرق الأوسط»: «في الذكرى الأولى للثورة، جمعت الطلبة وأعطيتهم أدوات رسم، ولكن ما راعني أن البعض منهم يتسرب للكتابة على الحيطان»، وتابع: «وجدت كتابات على جميع الحيطان؛ بل بعضهم صعد إلى المبيتات وكتبوا على جدرانها، ولم نجد بدا من شراء الدهان وطلاء الجدران من جديد.» كان هذا العبث في السابق يفسر بالكبت السياسي وأنها محاولات للتنفيس، بيد أن تلك الكتابات في معظمها لم تكن سياسية، مما ينفي صيغة الكبت السياسي التي كانت سائدة على مدى يزيد على 50 سنة، وكانت امتدادا لفترة الاحتلال الفرنسي لتونس، وعن ذلك يقول مدير المعهد: «هناك من يريد التعبير عن شيء من خلال الكتابة على الجدار، وهناك من يقوم بذلك بطريقة عبثية تطورت إلى تهشيم الكراسي والطاولات»، وأوضح: «نحن نمارس جانب اللين مع الطلبة، وإذا ما اقترف طالب خطأ يستوجب العقاب نسلط عليه نصف العقوبة؛ فمثلا بدل أن نطرده 15 يوما نطرده لمدة أسبوع فقط، إضافة إلى ذلك، هناك مفهوم خاطئ للحرية لدى بعض الطلبة؛ فالحرية لديهم أن يفعلوا ما يشاءون دون مسؤولية وحساب أو عقاب»، وأردف: «قام أحد الطلبة بتهشيم كرسي وتكسير آخر دون أي سبب، فقمت بوضع الكرسيين في ساحة المعهد وكتبت عليهما: (لا للتخريب) و: (الثورة ضد إتلاف الممتلكات العامة والخاصة)، وغيرها من الشعارات لأن القضية في نظري ثقافية تتعلق بالوعي.» ويحمل الأستاذ علي الخليفي المؤسسات التربوية المسؤولية عن حالة التسيب، وعدم الحسم مع العابثين من الطلبة، على حد قوله: «لا بد من تكثيف التوعية والتربية، فما يسود في تونس منذ عقود هو تعليم من دون تربية، وهذا ما أفرز ظاهرة التسيب والتمرد داخل المعاهد إلى درجة تعرض فيها أساتذة للضرب على أيدي طلبتهم.» ما كان كبتا وخوفا وإمساكا، أصبح بعد الثورة إسهالا، كما يرى الكثير من المربين، ويرى الأستاذ يوسف السبري أن «الكتابة على الجدران في المؤسسات التربوية، تعبر عن حالة نفسية، سواء في ظل الكبت أو التسيب والانفلات بعد الثورة، وهي طريقة مغلوطة في تحقيق الذات وإن أخذت شكلا عبثيا»، وتابع: «في السابق كان من يكتب مسكونا بالخوف، أما اليوم، فهو يكتب في تحد وارتياح، وهو يعكس أزمة أخلاق، فعندما نبحث بين الطلبة عن عينة تتمتع بأخلاق عالية لا نجدها بين من يكتب على الجدران.»