«قصر الأحلام».. إبداع فطري بشري ومعلم سياحي بارز في لبنان

تحفة معمارية تختزل الحضارات بأشكالها وألوانها

«قصر الأحلام» في بلدة بخعون بشمال لبنان («الشرق الأوسط»)
TT

بني على طريقة الروايات الأسطورية، وهو يختزل بتحفه معظم الحضارات القديمة، من الفرعونية والفينيقية والرومانية إلى الإسلامية - العربية، مرورا برموز الديانات المختلفة، وصولا إلى رموز التراث اللبناني. وهو قصر متنوع الأذواق والزخارف الحجرية، تحول بفعل جهود فردية لم تعرف الكلل إلى تحفة معمارية تنطق بألوانها وأشكالها جمالا وإبداعا.

هذه حكاية «قصر الأحلام» في بلدة بخعون، المطل على مناظر مذهلة في أعالي جرود الضنية، بشمال لبنان، إذ إنه لا يشبه أي مبنى آخر، سواء كان قصرا صغيرا أو فيللا فخمة، إلى درجة يحتار الزائر معها في وصفه وتسميته. والغريب في أمر القصر، الذي بدأ مشروع تشييده منذ عام 1994 أن فكرة المشاهد فيه جاء معظمها خلال جلسة لتناول فنجان قهوة، وهو من توقيع ثلاثة لبنانيين هم محمد هوشر وابنته داليدا (فنانة وهاوية رسم) والمهندس محمد فران، غير أن المنية وافت هوشر وفران منذ بضع سنوات، فلم يواكبا المرحلة التي بلغها اليوم.

ربيع هوشر، أحد أبناء محمد هوشر، قال في حديث لـ«الشرق الأوسط»، عندما التقيناه على أحد مداخل القصر بالقرب من أرزة بارتفاع 5 أمتار: «إنه حلم راود أبي ومحمد فران قبل 48 سنة، وما لبثا أن تشاورا مع شقيقتي، ليتفننوا بعدها بمهارات يدوية وحرفية وبعقل واحد في هذا البناء، من دون تصاميم مسبقة، لكن بأفكار مبتكرة على الورق لمنزل عادي». لقد تجاوزت تكاليف تشييد «قصر الأحلام» المليون دولار، مع أنه لم ينجز نهائيا حتى اليوم، وهو مزين بسبعين لوحة نفذتها داليدا هوشر ببدرة الرخام والإسمنت الأبيض. والقصر، في الواقع، أشبه بـ«مدينة سياحية» لا تستطيع أن تمر فيها مرور الكرام، لأنك ستجد نفسك مرغما، إذا كان لديك متسع من الوقت، على التدقيق بكل زاوية وكل حجر وكل شكل، حيث امتزجت فيه الأحلام والمهارة والهمة، وطبعا، النفس الطويل.

يتألف القصر المشرف من عل ومن بعيد على ساحل البحر المتوسط، والممتد على مساحة 5200 متر مربع، من طابقين لا لون لهما ولا طلاء ولا قرميد، لأنه مشيد كله من الموزاييك. في حين أن أسواره الأربعة الواقعة وسط حقول سنديان خلابة، جعلت منه معلما ضخما مزينا بالمحاريب والأبواب. أما المواد المستعملة في البناء فترتكز على حجر بخعون الطبيعي «الأونيكس» أي «الجزع» أو «العقيق اليماني» أو «حجر ملح القاق»، كما يعرف باللهجة العامية في المنطقة، وهو رقيق وشفاف له صلابة الصخر، يتلألأ لونه العسلي نهارا ويتوهج ليلا، متألقا أحيانا بومضات ألوان قوس قزح، فضلا عن أحجار الصوان والغرانيت الملونة ذات النقوش الكثيرة، بالإضافة إلى الحجارة الصفراء والسوداء والحمراء.

وهكذا فإنه بإمكان الزائر قراءة شعارات الديانات ورموزها على الجدران الخارجية للقصر، بينما يزين التراث اللبناني وبكثافة جنبات القصر وجدرانه الداخلية، مثل الخيول والرماح والترس والبنادق والقارب البدائي والأرزة والطاحونة والسيف والخيمة العربية والديوان والأباريق والمغارة وجرن الكبة وقلعة عنجر وقلعة المسيلحة وصخرة الروشة (أمام بيروت) والنقوش والكتابات، وكذلك مجموعة من الأسلحة النادرة والعملات وهواتف الباشاوات ومكواة قديمة، وغيرها.

مبدئيا قصد من القصر أن يكون على النمط الإسلامي، ولكن تظهر الحداثة من خلال تمثال سيارة، وهناك تمثال للمدفع كدليل على العصور الحديثة، في حين تزين الأواني الفخارية والسيوف مدخل أحد القصور الصغيرة المبنية على جنبات القصر، بينما تتوزع الرسوم على جداريات معظم التماثيل، من دون أن ينسى صاحب القصر نقش عشرات الآيات القرآنية على المبنى الرئيسي للقصر والمباني الصغيرة المحيطة به. وكذلك من دون أن يغفل وضع نقوش تدل على باقي الديانات في رؤية جامعة لها، ثم إن تشييد قصر بهذه الضخامة، وبهذا الجهد الفردي، يدعو الزائر إلى الاستغراب والتعجب. والأمر لا يتوقف على الرسوم المنقوشة على جدرانه بل يتعداها إلى مقتطفات من أحداث تاريخية وقعت في العالم، كما يستوقف الزائر في جنباته 36 أرزة نحتت وأعدت من الحجارة المحلية.

وحول التكاليف المادية لبناء «قصر الأحلام»، أوضح عبد الهادي هوشر، شقيق ربيع، أنها تجاوزت المليون دولار حتى اليوم، متوقعا أن تستمر أعمال البناء لعشر سنوات أخرى، ولا سيما أن المشروع سيتطور ليشمل بناء مدينة سياحية تحيط بالقصر، تضم ملهى ومطعما لاستقبال الزوار والسياح المحليين والعرب والأجانب، الذين سيتوافدون إليه في مختلف المواسم. ولفت عبد الهادي خلال حديثه مع «الشرق الأوسط» إلى أن «الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، ولا سيما الأمنية والسياسية منها، تحول دون إنجاز المراحل المتبقية بالسرعة المطلوبة».

عبد الهادي شدد، من ناحية أخرى، على أن «المشروع مفتوح للجميع وأمام كل من يرغب، لأنه ملك الناس والسياحة، وهو، مثل أهرام الجيزة في مصر وقصر فرساي في فرنسا، معلم سياحي مفتوح لكل السياح ولكل اللبنانيين من كل الطوائف والمناطق، ولهذا فثمة حاجة إلى مستثمرين محليين وعرب لاستكمال مراحله كافة لكي يتحول، حقا، إلى موقع سياحي بارز». أما ربيع فيهمه القول إن «قصر الأحلام أضحى حقيقة، بل حقيقة ساطعة أيضا»، متمنيا على المسؤولين في منطقة الضنية «الالتفات إلى حاجات هذا القصر؛ لأنه صار جزءا جميلا من معالم لبنان المهمة»، مضيفا أن «مساحة المشروع وصلت إلى 20000 متر مربع بعدما أضيفت إليه معالم جديدة كقلعة بعلبك وصور، فضلا عن إقامة مطعم وسور حوله».

اللافت أن أبناء هوشر قاموا، تخليدا لذكرى والدهم، بتأسيس مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» تحت اسم «قصر محمد علي هوشر - قصر الأحلام في بخعون»، واضعين عشرات الصور له، وهم يتلقون الآن التعليقات والاقتراحات عليها من لبنان وخارجه. وحرص الأخوان هوشر على مناشدة الوزارات المعنية في لبنان، ولا سيما وزارة الثقافة ووزارة السياحة، إيلاء قصر والدهم التاريخي والتراثي الاهتمام الكافي، وإدخاله ضمن قائمة المعالم الأثرية والتراثية في لبنان.