اللبنانيون في «مهرجان التراث».. عرسهم «بعلبكي» وأكلهم بالقدور

عشرات الخيام نصبت على شاطئ «عمشيت» للاحتفال بالحرفيين

أم يحيى تنسج على النول (تصوير: سدير عبد الهادي)
TT

ارتأت «عمشيت»، البلدة اللبنانية الصغيرة الوادعة الواقعة على ساحل شمال جبل لبنان، أن مهرجانها الصيفي سيكون مختلفا وبنكهة متميزة، وهذا ما حصل. فلقد نصبت نحو 27 خيمة بيضاء بمحاذاة البحر، طوال ثلاثة أيام كان آخرها يوم الأحد الماضي، وتحولت إلى مستقرات مؤقتة لأصحاب المهن اليدوية والحرفية. وحاول المنظمون، وعلى رأسهم فيفي كلاب، أن يأتوا بأفضل الحرفيين وأكثرهم شهرة، كل من منطقته، ومعه عدته وأجمل معروضاته.

ولكي يمنحوا المهرجان نكهة العيد، فإن عرسا «بعلبكيا» بكامل طقوسه كان حاضرا، مع الهودج والجمل والخيول الراقصة استغرق ما يقارب الساعة ونصف الساعة. وهكذا تحولت «عمشيت» إلى ساحة عرس وتجمع للحرفيين والفنانين والعاملين في مجال التراث اللبناني، بدءا من نساجي الحرير، وصولا إلى مصممي الملابس والطباخين.

وفي المساء وعند غروب الشمس، توجه الحاضرون إلى مساحة خصصت للجلوس، وأمامها مسرح لتقديم حفلات فنية لها صلة مباشرة بالتراث الغنائي اللبناني. وتناوب على المسرح خلال الأيام الثلاثة، الشاعر الزجال موسى شعيب، و«الحكواتية» سارة القصير، وجوقة فرقة «البلمند» بأصوات مغنيها الشجية، وفرقة التراث، بالإضافة للدمى المتحركة.

العرس «البعلبكي» خلب ألباب الزائرين. من إحدى الخيام ينطلق العريس على حصانه، ترافقه القبيلة بالمزمار والطبل والدبكة، يجوبون بين الخيام، وصولا إلى خيمة العروس التي رقصوا أمامها و«دبكوا» وغنى العريس وقوفا على ظهر الحصان، قبل أن يدخل الجميع خيمة العروس وترسم لها الحناء على كفيها، في حين كانت الأهازيج مستمرة، ثم تخرج العروس لتركب الهودج، بينما يطلع العريس من الخيمة ليمتطي حصانه، ويجول الجميع في أنحاء القرية التراثية تلحق بهم الجموع المأسورة بهذا العرس الذي لا يشبه أعراس المدن، في استكمال للزفة التي يسمع الحضور أثناءها أغنيات من تراث منطقة البقاع (شرق لبنان)، ويشاهدون الرقص بالسيف والترس.

«أيام التراث اللبناني» التي أقيمت برعاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، مناسبة تعرف خلالها اللبنانيون على عرس منطقة لا تبعد عن بيروت كثيرا، لكن لها عاداتها وفولكلورها وأغنياتها كما لها «دبكتها». وفي إحدى الخيام جلست أم يحيى، التي تنسج على النول قطعة من الحرير، وإلى جانبها أبو يحيى، الذي يتحدث عن وجود 12 نولا كلها في بلدة ذوق مكايل (شمال شرقي بيروت)، تعمل عليها العائلة، كما استقطبت شخصين لتعليمهما هذه الحرفة، ونجحا في التمرس فيها، لكن المنتج لا يباع.

ما زال اللبنانيون غير مقتنعين بأنه بمقدورهم أن يهدوا أصدقاءهم وشاحا من الحرير بسعر 200 دولار أميركي تستغرق حياكته 35 ساعة عملا، لكنهم يدفعون أغلى من ذلك بكثير لمنتج غربي، كما يخبرنا أبو يحيى أو أنطوان سعادة.

لكن على العكس تماما من أبو يحيى وأم يحيى، وهما والدا مخرج الفيديو كليب الراحل يحيى سعادة، الذي توفي إثر حادث أليم منذ عام ونصف العام، لا تشتكي حليمة الحجيري، الآتية من بلدة «عرسال» بشمال البقاع، من كساد بضاعتها.

في خيمتها تجلس حليمة وتنسج سجادة من الصوف الخالص. وهي تقول إنها عادت إلى مهنتها هذه بعدما تزايد الطلب فجأة على النوع اليدوي من السجاد. وتخبرنا بأنها تبيع متر السجاد بما يقارب 700 دولار، وهو ما أصبح مقبولا، نسبة إلى أسعار السجاد في السوق.

والواقع أن أهل البقاع، سواء منهم «فرقة المجد» التي أحيت العرس «البعلبكي» أو حليمة، الآتية من عرسال، كابدوا في «عمشيت» بسبب حرارة الساحل التي لم يعتادوها، ولتعاملهم مع الصوف الذي جاءوا به إما لغزل السجاد أو بوصفه ملابس للاحتفال بالعروس، في أجواء حارة ورطبة.

مختلف الحرف تجمعت في «عمشيت»، فهناك عائلة خليفة الآتية من «الصرفند»، (جنوب لبنان)، تسبقها شهرتها في مجال الزجاج المنفوخ؛ فنصبت فرنها وأخذت تشوي الزجاج وتبيعه للزائرين. وهناك أيضا سناء جبور، وحنينة جريس اللتان تصنعان الفخار وتشويانه على النار ليصبح جاهزا.. فيخرج صحونا ومقالي وكؤوسا.

حتى دود القز حضر إلى «عمشيت» عبر متحف «بسوس» الشهير بجبل لبنان.

تميزت هذه الأيام التراثية بعرض مجموعات تعود إلى أفراد أو إلى متاحف صغيرة خاصة، قامت بمبادرات فردية. فقد عرضت مجموعة «بيبي عبد» الشهيرة، من جبيل، التي تضم الوثائق والمسابح (السبحات) والصور، مثل الإكسسوارات وأشياء أخرى. وهناك مجموعات سيوف لرفيق كلاب، ومعروضات قديمة لميشال كرم، وبشار سلامة، وآلات موسيقية تراثية لناصر مخول.

ولكن، لعل المجموعة التي كانت الأكثر لفتا للنظر هي تلك التي ضمت ملابس ظهرت بها فنانات لبنانيات على المسارح، منها مجموعة سامية صعب الآتية من مهرجانات «بعلبك» وضمت فساتين لصباح وفيروز، وأخرى من مجموعة «بابو لحود» التي ضمت ملابس سبق أن لبستها وظهرت بها على المسرح الفنانة الراحلة سلوى القطريب.

وتعددت المجموعات والحرف، فمن حرفة صناعة اللباد إلى تنجيد الفرش وصناعة المنمنمات إلى ترميم المخطوطات، والتطريز، والخياطة. كلها معروضات جميلة، لكن بعض المهن توشك على «الانقراض»، فالعارضون يحدثونك عن كفاحهم من أجل البقاء، في غياب أي خطة رسمية تنموية تشملهم أو تشد أزرهم وتنهض بهم.

غير أن المفرح في مهرجان «عمشيت» أنه انتقى لنفسه صيغة تركز على المحلية، وتشجع الصناعيين اللبنانيين والحرفيين الذين تركوا لقدرهم ولقوة سواعدهم، بينما اختارت مهرجانات أخرى استجلاب فرق غربية موسيقية وغنائية بتكاليف باهظة دون مردود داخلي باستثناء المرح والسهر والتسلية.

في «عمشيت» تعرف الزائرون على أنفسهم. بعض اللبنانيين، لا سيما صغار السن، شاهدوا الجمل للمرة الأولى، وعرفوا أنه موجود في بلادهم. كذلك، من ثمار مهرجان «عمشيت» أنه عرف اللبنانيين على منتجات مناطقهم ومطبخهم، الذي يتنوع تبعا للطبيعة الجغرافية. ففي قسم الطعام انتصبت القدور على نيران الحطب. بالإضافة إلى المناقيش والفطائر التي تعودها اللبنانيون، تذوقوا هذه المرة من صحون فخارية، «المحمرة»، و«البليلة»، و«القورما»، و«المحمصة» و«القمحية»، هذا بالإضافة إلى البيض المقلي في صحون صنعت من العجين، وأقراص الكبة الآتية من «زغرتا».