متحف جبران: تحفة فنية وإرث ثقافي منحوت في وادي «قاديشا»

في مسقط رأسه ببلدة بشري في شمال لبنان

متحف جبران
TT

يعتبر واحدا من المتاحف القليلة في العالم الموجودة بالجبال والمحفورة في الصخر. وهو عالم فريد قائم بذاته، لكن زيارة واحدة إليه لا تكفي، ذلك أن لوحاته وحدها بحاجة إلى زيارات عدة، وكل زيارة إليه تبدو كأنها الأولى، ذلك أن الأفكار والأحاسيس والرؤى التي تختزنها تدفعك للعودة مجددا. إنه متحف الأديب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران - ذلك المعلم الثقافي الذي تحتضنه الطبيعة الجبلية الخلابة لبلدة بشري، ومحيطها، في جبال شمال لبنان، وتحديدا في وادي «قاديشا» الذي يعتبر من أعمق أخاديد لبنان، ويبعد 120 كلم عن العاصمة بيروت، ومع ذلك فهو يرتفع نحو 1500 متر عن سطح البحر. ويتميز هذا المكان بطبيعته الرائعة، ومناظره الساحرة التي تعكسها اللوحات الموجودة داخل المتحف.

جوزيف جعجع، مدير «متحف جبران»، الذي التقته «الشرق الأوسط» داخل المتحف، قال لنا: «من الصعب ذكر بلدة بشري من دون جبران خليل جبران.. لأن العلاقة متداخلة بين هذا الفيلسوف والفنان اللبناني العالمي ومسقط رأسه»، وأردف: «يضم المتحف 440 لوحة، بين زيتية ومائية ورصاصية وطبشورية، ترتكز على مشاهد الطبيعة بكل تجلياتها، و500 غرض شخصي لجبران، فضلا عن أثاثه المتواضع وكتبه ومراسلاته، التي عكست مشوار حياته بكل مراحلها، إضافة إلى مكتبته الخاصة».

أثناء دخولك المتحف يستقبلك تمثال نصفي من البرونز لوجه جبران نحته الفنان رودي رحمة، من أبناء بشري، تحيط به بركة ماء. لتصعد بعدها إلى المتحف على درج مرصوف بالحجارة الصفراء والبيضاء، ويمر هذا الدرج تحت صخرة كبيرة جدا، وفي وسطها مغارة لا تشاهد سوى من بعيد.

ويحتضن المتحف «العابق» بروائح شجر السنديان، والصنوبر، وعشب «الوزال» وغيره من الأعشاب البرية، و16 غرفة ذات سقوف منخفضة، ومساحات ضيقة مرقمة بالعدد الروماني المحفور على خشب الأرز.

وتتوزع هذه الغرف على ثلاثة طوابق تتعاقب في أدراج لولبية، وتؤدي في النهاية إلى المغارة التي شاء جبران أن تكون مثواه الأخير. وفيها حيث سجي، وإلى جانبه مرسمه وطاولة الكتابة التي كان يستعملها، وكذلك كرسيه الخاص وسريره الصغير الذي يدل على قصر قامته.

وفي إحدى الغرف، وضعت مكتبتان كبيرتان؛ إحداهما تضم كتب جبران الخاصة باللغتين العربية والإنجليزية، والأخرى تتعلق بكتب عامة كان يملكها في منزله بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة. وهناك أيضا دفاتر بخطه عليها «خربشات» وأفكار وكلمات، نشر بعضها في كتبه الصادرة، وآخرها مجلد «اقلب الصفحة يا فتى»، في حين تستوقف الزائر غرفة «ينبوع النبي» التي تنبع منها مياه عذبة من قلب الصخر.

ثم في غرفة أخرى يوجد عدد من المخطوطات والدفاتر الخاصة، وكثير من الأغراض الشخصية، ومجموعة من الدراسات التي تناولت فنه وكتاباته. ويفاجئ جبران زائر متحفه ومثواه، حتى بعد مرور 75 سنة على مماته، يوم 10 أبريل (نيسان) عام 1931، ذلك أنه قرب قبره كلمات حفرها بنفسه على خشبة أرز، تقول «أنا حي مثلك، وأنا الآن واقف إلى جانبك فأغمض عينيك تراني أمامك».

اللافت في لوحات جبران ارتكازها على الطبيعة بكل تجلياتها بما فيها الطبيعة الإنسانية وتقلباتها، إذ قلما تخلو لوحة من صور للإنسان كما هو وفي شتى حالاته وسط فضاء فلسفي. كذلك تراه يركز على روحية الأشياء ومصدرها وشفافيتها، وعلى جوهر الحياة، والشمس والماء، من دون أن يغفل حالات التأمل والحوار الروحي وحركة الحياة.

لوحات معظمها لا يحمل توقيعا ولا تأريخا؛ لإيمانه بأن «الرؤى لا تعنون»، قائلا في إحدى المرات إن «لوحتي أنّى وجدت ستعرف أنها لي».

ومن حجرة إلى أخرى ومن ممر إلى آخر، حيث يمنع التقاط الصور الفوتوغرافية، تحضر صور المشاهير الذين عاصرهم جبران وتأثر بهم.. من النحات الفرنسي رودان إلى العلامة والعبقري الهندي طاغور، ومن الأميركية ماري هاسكل إلى أمين الريحاني ومي زيادة.. وكذلك أمه وأخته سلطانة..

في أكثر لوحاته تعبيرا عن الألم الإنساني، لوحة «أسرة الفنان الوردية»، وتتجلى فيها مأساة فقدان شقيقته سلطانة وشقيقه بطرس بمرض السل، وبينهما والدته التي توفيت بمرض عضال أيضا، مما انعكس على رسومه وفلسفته وأفكاره. ولقد تركت أمه بصمات عميقة في شخصيته، وهو يذكرها في «الأجنحة المتكسرة» بقوله: «إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة الأم، وأجمل مناداة هي: يا أمي».

وفي وصيته الأخيرة، أهدى جبران لوحاته ورسومه وأشياءه الثمينة إلى ماري هاسكل - الصديقة التي رعته، تاركا لها الخيار في ما تراه مناسبا بشأن ذلك، فكان حنينه إلى وطنه في ذاكرتها سيد الموقف، لترسل بعدها كل هذه الثروة «الجبرانية» إلى بلدته بشري عام 1933، التي قامت بعرض اللوحات الفنية في أماكن كثيرة، قبل أن تستقر في متحف يليق بهذا الإرث الفريد.

إرث ثقافي وفكري يضمه المتحف، الذي أسس في عام 975، حين اكتشفت «لجنة جبران الوطنية» رغبته التي عبر عنها في إحدى وثائقه المدونة في عام 1926 في شراء دير «مار سركيس» الذي يفوق عمره الـ1500 سنة (وهو عبارة عن مغارة قديمة تعاقب فيها الحبساء منذ القرن السابع للميلاد)، ليجعل منه «صومعة فكرية» ومقرا له بعد عودته من نيويورك.

لكن حلم جبران لم يتحقق، إذ توفي بعدها بخمس سنوات، وفي 22 أغسطس (آب) عام 1931، وصل جثمانه إلى بشري، فابتاعت أخته مريانا الدير وملحقاته، منفذة جزءا من وصية شقيقها بأن يدفن في المحبسة.