الكراسي الخشبية في صيدا.. تزين البيوت القديمة والحديثة

صعوبات اقتصادية وإنتاجية تهدد جديا بقاء صناعتها

علي الشامية داخل محترفه في صيدا («الشرق الأوسط»)
TT

إنها مهنة صعبة، وتحتاج إلى الخبرة والرغبة لاحترافها، فضلا عن الجهد والصبر والوقت، كما يقول ممتهنوها. أما زبائنها فيفضلونها لانتمائها إلى العمل اليدوي المتميز بالصلابة والمتانة والعمر الطويل والشكل الجميل.

والواقع أن الكراسي الخشبية أو «كراسي القش» ما زالت بمثابة تحف تزين البيوت اللبنانية القديمة منها والحديثة وتعطي البيت شعورا بالدفء والجمال المريح. غير أن ممتهني صناعة هذا النوع من الكراسي فباتوا قلائل، بعد تراجع الإقبال على شرائها في الربع الأخير من القرن الماضي، وصرف جيل الشباب أنظاره عنها، وإحجامه عن تعلم أصولها وإتقان صنعها.

وبينما يغص سوق «النجارين» في مدينة صيدا، عاصمة جنوب لبنان، بالمنتجات الخشبية، فإن الإقبال الضعيف على شرائها دفع بالنجارين إلى دق ناقوس الخطر لأن حرفتهم باتت ـ حقا ـ مهددة بالانقراض.

ممسكا بخيوط القش الصفراء، غازلا منها كراسي القش التقليدية التي باتت جزءا من التراث، قال علي الشامية في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في محترفه الصغير الكائن في حي «الشارع» الأثري بصيدا القديمة: «عدو مهنتنا اليوم الكراسي البلاستيك، التي يفضلها الناس هذه الأيام على الكراسي الخشبية ذات المقاعد القشية التقليدية»، وأردف: «مهنتنا لم تعد تشكل موردا وحيدا للعيش، فالمشترون قلائل والتكاليف عالية، ولولا تمسك بعض الناس بالتراث لكنا في خبر كان».

الشامية، مارس مهنة صنع كراسي القش منذ 67 عاما، أمضاها وهو يجلس وسط عشرات الكراسي الخشبية المتنوعة، حجما ولونا، والسلال والقباقيب والمناخل (جمع منخل) والطبليات والقوالب الخاصة بصنع الحلويات، وخلال الحوار معه قال لنا: «لقد لاقت هذه المهنة رواجا ذهبيا زمن العثمانيين والفرنسيين، حين كان يغزو السوق هنا في صيدا التجار القادمون من فلسطين. ويومذاك كان أجدادنا يعملون ليل نهار، ويبتدعون الأفكار الحرفية المتأنقة في خشبنا، أما اليوم فقد تبدلت كل المعالم، وها نحن نواجه شبح الإفلاس والإقفال».

وبالفعل، تتكدس في أروقة سوق «النجارين» مئات المنتجات الخشبية أمام المحال التجارية، ويؤكد محترفو المهنة أن نجم هذه المهنة في أفول متواصل، لافتين إلى أن الأسباب كثيرة، ولكن أبرزها التكلفة الباهظة للخشب ذي الجودة العالية، وغياب التسويق والتصريف، وغياب الدعم الرسمي والتشجيع الأهلي بدءا من الوزارات المعنية ومرورا بالمؤسسات المختصة، ووصولا إلى التقنين القاسي للتيار الكهربائي. وبالتالي، فإن هذه الحرفة التراثية القديمة التي توارثها الأبناء عن الأجداد منذ 150 سنة في صيدا لم يبق من العاملين فيها سوى ثلاث عائلات صيداوية هي: الشامية وأبو ظهر والملاح، بعد «العصر الذهبي» الذي عاشته قبل «ثورة البلاستيك»، حين كانت السوق ذاتها تعج بعشرات العاملين فيها في حركة لا تهدأ.

أما سعيد شامية (87 سنة)، وهو شقيق علي، و«عميد النجارين» في صيدا فقال لنا إنه تعلم المهنة منذ 70 سنة عن جده.. لكنه لن يعلمها لأولاده لأنها غير منتجة، مضيفا: «معظم الوافدين والسياح يحضرون إلى هنا للمشاهدة والتقاط الصور التذكارية فقط دون أن يشتروا شيئا. هذه الحرفة ما عادت تطعم خبزا، بل بالكاد تسمح لنا بدفع إيجار محترفنا والضرائب المستحقة علينا».

وبالفعل، على الرغم من أن جيل الشباب اللبناني بات ينتمي إلى عصر التكنولوجيا والإنترنت، فإن كل مراحل هذه الحرفة تتم يدويا 100 في المائة بعيدا عن تدخل الآلات إلا عند تقطيع الخشب، مما يعني أن صناعة الكرسي الواحد تحتاج إلى وقت قد يصل إلى يوم كامل، فمرحلة تجميع القش تستغرق ثلاثة أيام متتالية. وهنا أشار سعيد إلى أن القش كان المادة الأولى في هذه الصناعة الحرفية، وقد استخدم النجارون «الصيداويون» سابقا قشا فرنسيا، ثم آخر مستوردا من سنغافورة، بسبب غلا الأول في صناعة كراسي الخيزران، وبعدها دخلت خيوط «النايلون الملون» لتحل بديلا عن القش، نزولا على رغبة وذوق الزبون الذي يقرر قبل التصنيع ماهية طلبه.

أما علي، فأوضح أنه يستعمل النقوش في صناعة الكراسي مثل «الطاووس» و«عين الشمس» و«النسر»، لافتا إلى أن «التقشيش» يتعلق بصيانة وترميم الأثاث التراثي ذي الاستخدام الخارجي والداخلي، مثل الكراسي وقطع المفروشات والخزائن الخاصة، وطاولات غرف الجلوس، والأدوات الخاصة بالحمامات والمطابخ.. وصولا إلى القطع كبيرة الأحجام، مثل الأسرة والمكتبات وخزائن الملابس، وجميعها يتداخل فيها الفن مع الصناعة.

ولكن هذا الواقع غير المرضي لم يقف حائلا في وجه الأوفياء للتراث الذين ظلوا على وفائهم للمقاعد الفخمة ذات المساند المحبوكة من أسلاك الخيزران. إذ احتفظ أصحاب كثير من المقاهي في المدن بالكراسي الخشبية التقليدية إلى جانب كراسي القش والخيزران، منها مقهى البيضاوي في صيدا، ومقهى الشلال في جزين (جنوب لبنان، وهو أكبر المقاهي فيها). كذلك احتفظت جمعيات وروابط عائلات بأعداد من هذه الكراسي لزوم الأفراح والمآتم والندوات واجتماعات الهيئات العامة، مما شكل حتى الماضي القريب مصادر عمل للمقششين (العاملين في تصنيع كراسي القش).

وحول سعر الكراسي في السوق، أشار سعيد إلى أنه يتراوح بين 6 آلاف و150 ألف ليرة، والسعر الأخير هو للكرسي «الضخم المقشش»، وقال إنه يشترى القش من محلة الدورة بشمال العاصمة بيروت، مطلقا شكواه من غلاء هذه المادة «المرشحة للارتفاع أكثر» – حسب قوله. وفي ما يتعلق بخشب الكرسي، فذكر أنه يشتريه قطعا كبيرة من محلات النجارة، ويقوم بتفصيله حسب الحاجة، وهو عادة من شجر «السرو» و«الحور».

وأكد سعيد الشامية أن زبائنه الذين كانوا يقصدونه ليسوا من صيدا فحسب، بل من كل مدن وقرى الجنوب ومختلف المناطق اللبنانية، وتحديدا من بيروت والجبل، ولا سيما بعدما انحصرت هذه المهنة في القليل من المحترفات بالعاصمة بيروت وطرابلس وعكاز. وفي الختام دعا سعيد إلى إدخال هذه المهنة مادة في المناهج الدراسية في الجامعات والمعاهد الفنية والمدارس بهدف منع انقراضها والمحافظة عليها لأنها جزء من تراث هذا البلد.