لبناني يتقاعد من مهنة «البوسطجي».. محتفظا بعدتها وذكرياتها

تحول إلى ساع «بلا بريد» بعد رحلة استمرت 39 عاما

حسين ناصر ابن بلدة يُحمُر في جنوب لبنان على دراجته التي اشتراها بـ 2500 ليرة
TT

في زمن خلا من الخادمات لكنه لم يخل من الإكراميات، عاش «أبو الشوارب» - لقبه التحببي - متنقلا على دراجته النارية، حاملا الرسائل البريدية لأصحابها في رحلة استمرت 39 عاما، وانتهت بمشهد تراثي فريد وجامع لعدة الشغل.

حسين ناصر، ابن بلدة يُحمُر في جنوب لبنان، التقته «الشرق الأوسط» فقال لنا في حديث مع الذكريات: «بين 14 قرية جبلية تنقلت على دراجتي التي اشتريتها بمبلغ 2500 ليرة مقسطة بـ50 ليرة شهريا، كانت كفيلة إلى جانب المهنة بتأمين شبكة من العلاقات العامة، ابتداء من الفقراء والرعاة والفلاحين، وليس انتهاء بالأغنياء والأطباء والضباط والمحامين والمهندسين، ومديري المدارس والبنوك والحجاب. كل هؤلاء كانوا يحبونني ويستهضمونني (أي يجدونني خفيف الظل)».

في بداياته مع المهنة، اجتاز «أبو ناصر»، وهذا لقبه الفعلي، امتحانات مجلس الخدمة المدنية ليعين ساعي بريد في بلدة عبية، بقضاء عالية في جبل لبنان، عام 1964. وكان قبل ذلك التاريخ قد نال شهادة البريفية (الإعدادية)، ثم امتهن التعليم لفترة قصيرة عام 1963 في مدرسة «المقاصد» بمدينة النبطية، إحدى حواضر الجنوب اللبناني.

ثلاث سنوات أمضاها أقدم «بوسطجي» (موزع بريد) من جنوب لبنان في بلدة عبية وجوارها، وبدوام يومي نادر في زمننا، وهو من الثامنة صباحا حتى 12 ظهرا، ومن الثانية بعد الظهر حتى السادسة مساء، ويتخلل الفترتين استراحة في المنزل لمدة ساعتين.

ويؤكد «أبو ناصر» أن البريد كان يصل مضمونا لصاحب العلاقة، بعد يوم أو يومين على أبعد تقدير، وإذا لم يجده فسيكون الأخير مضطرا للذهاب إلى مركز البريد عند التاسعة صباحا مصطحبا معه بطاقة هويته لتسلمه.

ثلاث سنوات في عبية كانت كفيلة بإرهاق صاحب الشاربين العريضين، طلب بعدها نقله إلى مركز قضاء النبطية، رغم الجهد المضاعف المطلوب هناك، والمتمثل في قطع مسافة تزيد على 70 كلم يوميا بغية توزيع البريد على 27 قرية، على مدى 6 أيام.

وردا على سؤال، أجاب بثقة: «كنت أرتدي (المعطف الخفيف) المشمع والجزمة والحطة (الكوفية) أثناء هطول المطر، بينما كانت مواجهة أخطار الطريق محسومة لصالح المنفخ (منفخ العجلات) والمفك؛ إذ كنت أنزع الدولاب (العجلة) الداخلي، وأرقعه وأنفخه ثم أعيد تركيبه لأتابع رحلتي»، وعند هطول المطر كنت أرفع قدمي أثناء القيادة تجنبا للبلل».

وبشيء من الخجل، كشف ساعي البريد الوحيد المتبقي من أبناء جيله عن بعض «الإكراميات» التي كان يتلقاها، مثل «سكين 108» مصنوعة في السنغال من الفولاذ والبلاستيك، وكان سعرها يومذاك نصف ليرة، وأيضا بعض الولاعات من ماركة «رونسون»، و«مسابح» (سبحات) متعددة الألوان والأحجام.

هواية «أبو ناصر» عندما كان طالبا لم تفارقه أثناء ممارسته مهنته، مرفقة ببعض التطور غير التقني. فبعدما كان يرعى المواشي، في بيت يعتمد على تربيتها وعلى الزراعة، لجأ إلى بيع الحمل والجدي في البلدات التي يقصدها.. وفي ذلك شرح: «كنت أقيد أيديها وأرجلها بإحكام، وأضعها في الخرج وأسلمها للرعاة، لأربح نتيجة بيع كل منها مبلغ 15 ليرة بعد شهر أو شهرين.. مبلغ قيم كان آنذاك».

خطوة أظهرت فعاليتها في سبيل مواجهة متطلبات الحياة، لا سيما أن راتبه كان في عقد السبعينات من القرن الماضي 161 ليرة، بينما كان إيجار المنزل 35 ليرة، فما بالك بما بقي من مدفوعات حتى نهاية الشهر؟ يسأل «أبو ناصر» غير متناس الترحاب الذي كان يتلقاه من مستقبلي الرسائل بالقول: «أهلا بهذه القامة وبالشوارب.. أهلا بحامل رسائل الغوالي».

لحظات حلوة وأيام جميلة أمضاها «أبو ناصر» على امتداد 39 سنة في نقل رسائل من جهات رسمية ومن المهاجرين إلى ذويهم؛ فضلا عن قرارات رسمية وإدارية وقضائية، ورسائل فرح، وتعزية. وهنا علق بحنين ظاهر: «كانت المحبة في القلب، ولم يكن كل شيء مبنيا على المصلحة كما يحصل اليوم. عشت رفاهية المراهقة مع الصبايا، كنت أجلس مع الرجال بألفة وإنسانية في بيوت القناطر والعقد»، محدقا إلى البعيد من شرفته، متأسفا على انتهاء زمن المحبة والألفة منذ زمن.

«أبو ناصر»، ابن الـ69 سنة، تابع متذكرا ومتحسرا على الماضي: «كانت الناس تعيش سواسية... لا فرق بين مسيحي ومسلم، أو بين سني وشيعي.. بعكس ما يحصل اليوم».

وماذا عن يُحمُر؟

مئات الأشخاص يشكلون مجموعة «معارف» ابن بلدة يُحمُر، منهم من توفي، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة.. منهم المرأة التي أحبها، لكنها تزوجت غيره، واليوم أصبح أولادها شبابا، لكنه لم ينسها.. وبابتسامة سمحة يروي: «.. كلما ألتقي بها تقول: لا تتكلم. أسالها عن السبب، فتجيب: كنت تقول إنك تحبني، ولو كنت صادقا لما تزوجت غيري».

ومن الطرائف التي لا تزال تتكرر مع «أبو ناصر» ذلك السؤال الذي ما زال يطرحه شبان البلدات التي كان يجول فيها: «كيفك يا أبو ناصر؟ بعدك شب؟ وكيف هالشوارب؟ ثم يسألونني هل عرفتنا؟ أقول لا.. فيجيبونني: نحن نتذكرك لأننا كنا صغارا وأنت كنت كبيرا. فأرد عليهم: الصغير يعرف الكبير، ولكن الكبير من الصعب عليه تذكر الصغير».

«أبو ناصر» أحيل إلى التقاعد عام 2003، وكان أمامه خياران؛ فإما أن ينال تعويضه، أو يتقاضى معاشا شهريا حتى توافيه المنية، فاختار الثاني لاعتبارات عائلية، كما قال.

رحلة الـ39 سنة بين القرى انتهت بصور معلقة على جدران منزله لأصحاب المواقف السياسية الصاخبة، و«الذوات» (الوجهاء) والفقراء، وبذكريات لا تنطفئ. أما حقيبته التي حملت أفراح الناس وأحزانهم، فما زال محتفظا بها إلى جانب دراجته التي زحف عليها الصدأ.

وعلى بعد سنتيمترات قليلة ترتاح بزته الرسمية والمشمع (بزة الشتاء المزودة بقبعة) وبطاقة المهنة، وإلى جانبهما الخرج الذي كان مخصصا للرسائل وأحيانا للحمل والجدي.. كلها لا تزال تذكره بأسماء أبناء القرى وعناوينهم في زمن صارت فيه تكنولوجيا المواقع الإلكترونية والبريد الإلكتروني والصوتي والرسائل النصية وخدمة «بلاك بيري»، صاحبة الكلمة العليا.