أشهر سقاء بالقاهرة: «السقا» مهنة عِشرة ولها طعم خاص في رمضان

«العم وحيد» يشهر قربة الماء في وجه الزمن ويسعد بسقاية عجوز أو طفلة

«العم» وحيد.. سقاء القاهرة الأشهر
TT

دخلت مهنة السقّا (أو السقّاء) الفولكلور المصري، وأصبحت مفردة حميمة في مقابل الإحساس بالعطش والظمأ. وحتى الآن، لا يزال يحتفظ السقا بطقوسه الشعبية منذ ظهوره في العصر العباسي، حين كان يتولى نقل مياه الشرب النظيفة من النيل مباشرة إلى الأسبلة (جمع سبيل) والمساجد والمنازل. وظل السقا يؤدي مهمته حتى مع إنشاء محطات المياه تدريجيا في العصر الحديث، ولكن مهنة السقا أخذت في التراجع شيئا فشيئا وقل عدد ممتهنيها حتى بات العاملون في مهنة السقاية معروفين بالاسم.

وحيد الشافعي، (55 سنة)، أشهر سقا في مساجد آل البيت، قال لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يوجد اليوم سوى أربعة سقاءين في القاهرة واثنين في الإسكندرية وثلاثة في الصعيد. وعن رحلته مع مهنة السقا، قال: «أعمل سقا منذ 30 سنة. وكنت قبل ذلك أعمل ترزي (خياط) رجال في موطني بمحافظة المنوفية. ومنذ صباي، لم تنقطع زياراتي لمساجد آل البيت في الحسين والسيدة نفيسة والسيدة زينب والسيدة عائشة في القاهرة، بالإضافة إلى مسجدي الأزهر وعمرو بن العاص. وكانت زيارات متكررة كل أسبوع، شاهدت فيها أفرادا عواجيز يحملون قربا جلدية ممتلئة بالماء ويقومون بسقاية المصلين والمارة في الطرقات المحيطة بتلك المساجد. وذات مرة، لم أجد السقا الذي اعتدت رؤيته، ولدى السؤال عنه عرفت أنه مريض، وقد توفي لاحقا. وكان ذلك في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وعندها قررت أن أقوم بما كان يفعله في أيام الجمعة التي أذهب فيها لمساجد آل البيت، ولكن بجركن مياه».

وتابع «العم» وحيد: «بعد أسابيع قليلة وبسبب ارتباطي بالمصلين وزوار آل البيت، قررت ترك المنوفية ومهنة الترزي والبقاء في القاهرة. واشتريت قربة من جلد الماعز والزي المخصص لـ(السقا)، وبدأت ممارسة المهنة من دون مقابل عن عشق واقتناع. وتنقلت بين المساجد، ثم انتقلت أسرتي للإقامة معي. وطوال هذه الفترة، أنعم الله علي بسبب سقاية الناس وبعدم ترك صلاة جماعة في مساجد آل البيت إلا مرات قليلة، هذا فضلا عن ذكر الله ليل نهار. وأسعد لحظات حياتي هي حينما تطلب طفلة صغيرة أو شيخ كبير مني كوب ماء من القربة. كما أن ما سمعته عن قيام الإمام علي، كرم الله وجهه، بسقاية الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة في المسجد - زاد من حبي لمهنة السقا».

في الواقع، تتميز مهنة السقا بأنها مهنة «عشرة» ومودة، فسقاية الناس تصنع بين السقا وبينهم حبالا من المودة والألفة، غير أن «العم» وحيد يتحسر على تراجع هذه المودة، قائلا: «سقاية الناس زمان غير دلوقتي. فقديما، لم تكن هناك محطات مياه، ولم تكن هناك صنابير أو طلمبات مياه، وكان السقا يحمل الماء ويوصله للناس في بيوتهم نظير مبلغ من المال لملء أوانيهم وأزيار الماء عندهم. كانت المهنة كلها ألفة ومحبة، بالإضافة إلى سقاية المصلين في المساجد والمارة في الطرقات. ولكن، الآن دخلت المياه كل البيوت، وما عادت هناك حاجة لذهاب السقا إلى المنازل، وهكذا اقتصر دوره على سقاية الناس في الطرقات، والمصلين في الجوامع بـ(كيزان الماء «جمع كوز»). وبالتالي، يعتمد دخل السقا اليوم على النقود المعدنية التي يدفعها له المصلون وهي تدفع على سبيل الهدية وليست إلزامية، وكثيرا ما يشرب المصلون من دون أن يدفعوا شيئا، وكثيرا ما تطلب مني عجوز أو مارة في الطرقات ملء زجاجات المياه معها وبلا مقابل أيضا».

القربة الجلدية التي يحملها «العم» وحيد تتسع لـ20 لترا من الماء، وهي مصنوعة من جلد الماعز. وهو يفسر ذلك بـ«أن جلد الماعز بعد دبغه يساعد في برودة الماء ويحفظ درجة حرارتها باردة، وبالمحافظة عليها تعيش لأكثر من سنة، ولكن لو ملئت بالشربات مثلما يفعل بعض السقاءين، يتآكل جلدها من الداخل وتتلف بعد شهرين أو ثلاثة». وتابع أن سعر القربة يبلغ 150 جنيها ويجري تصنيعها خصوصا في مركز أبو تيج بمحافظة أسيوط بالصعيد، وهناك من يصنعها في ضواحي الجيزة.

لكن، ما الذي يتمناه حامل المياه، بعد كل هذه السنين من الكد والعمل؟

«العم» وحيد أجاب: «أتمنى أن تأتيني فرصة للحج أو العمرة، وساعتها سآخذ قربتي وأقوم بسقاية المصلين في المسجد الحرام والمسجد النبوي».

وعن الطرائف التي صادفته في مهنته، قال راويا: «ذات مرة، فكرت في أن أواكب العصر وقمت بتصنيع قربة من الإستلستين، غير أن الناس والمصلين استقبلوها بفتور وسألوني عن القربة الجلدية، فعدت إليها مجددا وتركت القربة الإستلستين بعدما استخدمتها لمدة 3 أيام فقط». ومن بين الأشياء التي تميز وحيد في سياق عمله، بدلته الخضراء المطرزة بأسماء الله الحسنى وعبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وبالمثل كسوة القربة وهي أيضا خضراء اللون حتى تحفظ القربة وتحمي جسمها الخارجي من الأتربة.

هذا، وعلى الرغم من اختلاف السنين وتغير الأحوال، يبدأ وحيد يومه قبل صلاة الفجر بذهابه إلى أحد مساجد آل البيت وملء القربة من الصنبور أو مبرد المياه المثلجة في المسجد ثم يقوم بتحليتها بقطرات من ماء الورد، ويباشر بسقاية المصلين إلى صلاة الفجر ثم يتوجه إلى بيته للنوم حتى العاشرة صباحا، وعندها يذهب إلى صلاة الظهر ويبقى بالمسجد حتى الانتهاء من صلاة القيام، وذلك في أوقات رمضان. والشيء نفسه يتكرر في الأيام العادية حتى صلاة العشاء.

واختتم «العم» وحيد كلامه معنا والابتسامة تعلو شفتيه قائلا: «90 في المائة من المصلين يتركون مبردات الماء المثلج ويشربون من قربة جلد الماعز»، قبل أن يفاخر بأن الشيخ الشعراوي والدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب الأسبق شربا من قربته وكان ذلك في مسجد السيدة نفيسة.