حرفة سلال القصب.. رفيقة الفلاح اللبناني في طريقها إلى الانقراض

من الحرف القديمة التي رافقت نشأة كثير من الحضارات

طنوس يصنع إحدى سلاله داخل منزله («الشرق الأوسط»)
TT

هي فن حقيقي بحد ذاته، تعد من أقدم الحرف التي ارتبط اسمها بالحياة اللبنانية الريفية وتأصلت مع الوقت منذ قرون عدة.. إنها صناعة سلال القصب، تلك الحرفة الفنية التي جعلت من السلال رفيقة الفلاح اللبناني في المواسم، ولطالما شكلت المنتج الطبيعي الملائم لنقل ثمار الصيف كالخضار والفواكه والحمضيات من الحقول والجنان إلى الأسواق.

هذه المهنة التي كانت شائعة في المناطق الساحلية اللبنانية وفي بعض القرى الجبلية منذ قرون عدة أهمها عمشيت وكواشرا وزغرتا، لم تعد تعتبر ذلك النشاط العائلي والموسمي، المصدر الأساسي لمعيشة العائلات، في كفريا خصوصا في فصل الصيف، بسبب تراجع أسواقها التي كانت ميسرة.

فبعد أن كان أصحاب بساتين الحمضيات والتجار في جنوب لبنان ينتظرون ساعات أمام منازل صانعي هذه السلال في قرية كفريا (صيدا - جنوب لبنان) بهدف الحصول على هذا الموروث العتيق، بدأت طبول هذا الموروث تقرع اليوم إيذانا بانقراضه من بلدة شكلت حتى الأمس القريب أميرة هذه الحرفة.

وبينما بقيت كل البيوت تقتني السلال بانتظار مواسم الأكيدنيا وبعض الكروم، ظل العمل يقتصر على ثلاثة من المسنين أو المتقاعدين يشبكون السلال بانتظار بعض التجار.

ويقول جرجس طنوس (74 عاما) في حديث لـ«الشرق الأوسط» وهو يجلس على الأرض يشبك إحدى السلال: «تعلمت هذه الحرفة من والدي في عمر 10 سنوات، البلدة بكامل بيوتها العتيقة كانت تعمل في صناعة السلال، بعد أن توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد من جيل إلى جيل، واليوم لم يبق إلا اثنان من أبناء جيلي يمتهنانها، بعد تراجع نتاجها الوفير».

ويضيف أبو طوني أنه يمضي ما يقارب 5 ساعات بين القصب، مؤكدا أنه لن يفارقها طالما لديه القدرة على مزاولتها: «هي جزء من روحي، أصبحت مدمنا لها، هي متنفس لي من هموم الحياة، أنتج نحو 6 سلال في اليوم أوضبها في صفوف متراكمة، وأبيعها بمبلغ 30000 ليرة، وهي فن كبير يتطلب اكتسابه كثيرا من الصبر والحنكة لإنتاج ما يرضي الزبون، وتجنبا للجروح التي تحدثها».

ويقر المقيمون في القرية بأن صناعة سلال القصب أسهمت في عودة بعض أبنائها بعد عملية تهجير أبناء شرق صيدا بين عامي1985 و1992.

أما طريقة صناعة السلال وفق طنوس فتبدأ بتجميع القصب المستقدم من ضفاف الأنهار ومجاري الينابيع ونقعه بالماء حتى يصبح طريا جاهزا لتدوير سلال مشبكة من أحجام مختلفة، وبعد شبك القاعدة من قصب عريض مبلول ومطوع وجدلها بنسلات أخرى «مفسخة» من القصب الطويل، يجري بمهارة شبك الخارج الدائري الموصول، من خلال القصب العمودي المتفرع من القاعدة والموزع بتباعد متساو.

وعند الانتهاء من الارتفاع والاتساع المطلوبين، تشبك وتجدل «المسكة» العريضة وكذلك الارتفاع، فتصبح جميعها جاهزة لدخول «سلك الخدمة».

وإلى جانب سلال الكروم والبساتين، تشبك سلال قواعدها من خشب، مربعة ومستطيلة ودائرية لاستيعاب الورود والأزهار، حيث تحتاج هذا السلال إلى جهد أكبر من السلال العربية لما فيها من فن واحتراف، فيما تصنع جوانبها من القصب، أو من قضبان «الحيلاف» و«العربيط» المستقدمة من الجرد (على ارتفاع 2000 متر عن سطح البحر)، وهي ذات مسكات طويلة وأحجام مختلفة وأشكالها متعددة.

ويشكل فصل الخريف موسم إنتاج سلال القصب، وأكثر السلال التي تصنع حاليا هي التي تتسع لنحو 6 كيلوغرامات، وهي تصلح لمختلف الاستعمالات خاصة بعد تراجع بساتين الحمضيات في المنطقة الممتدة من الزهراني حتى مدينة صور، كما يتم صنع «حصر» القصب للمطاعم، ولتغطية الأرض والسقوف. ومن المعروف أن القصب منتشر جدا في لبنان.

أما الأدوات الأساسية المستخدمة لصناعة السلال فلم تتطور منذ قرون عدة، وأهمها: مقص التشحيل، المنجل الصغير، المطرقة الخشبية، المخارز (تستخدم لإحداث الثقوب وإدخال الألياف)، المقشرة (لنزع القشرة).

ويعاني منتجو هذه السلال من منافسة أقفاص «البلاستيك» والسلال «الصينية» المزخرفة، واقع لم يحجب ميزاتها؛ فإنها لا تسخن كالبلاستيك (عدو البيئة)، كونها تسمح بدخول الهواء بكمية معقولة لا تجفف المحتوى ولا تحتفظ بالماء الذي ترطب به الخضر خوفا من الجفاف وبسبب حرارة الجو، فينزل الزائد من خلال فتحات النسيج.

كما يغطي الفلاح هذه السلال بـ«الخيش» الذي يرفعه على مخيط السل، كي يزيد من سعته، ويخيط بخيوط القنب السطح العلوي ولا يفتحها إلا في الأسواق.

وردا على سؤال يوضح طنوس أنه يمكن للحرفي أن يجدل سلة وهو واقف أو جالس أرضا، لكن الوضعية المريحة هي الجلوس على مقعد، ويجب أن تكون طاولة العمل أعلى بحدود 30 سم من المقعد كي يحافظ العامل على استقامة جلسته ولا يضطر للانحناء أثناء العمل.

وفي نظرة سريعة، فإن إنتاج كفريا «أيام العز» كان يتراوح بين 1000 و1500 سلة عربية وسلة ورد في اليوم الواحد، مردود ليس بقليل على قرية يبلغ عدد أهلها بين 1500 و2000 وكانت تبيع كل هذا الإنتاج، أما اليوم يكاد يصل الرقم إلى 100 سلة مختلفة في اليوم.

ذلك الواقع قلب المعادلة، وجعل البائعين يقصدون التجار لبيع إنتاجهم، مما ترك عتبا كبيرا يحمله طنوس في قلبه وفكره حيال غياب تشجيع السلطات المحلية والحكومية وتسهيلها بيع هذا الإنتاج التراثي، بعد أن أصبحت في حالة لامبالاة فهي لا تقدر ما تملك، بينما مواطنوها يفضلون «الجاهز» على الحرفي اليدوي.