«الصدفجي».. مهنة مصرية مهددة بالانقراض

يعمل بها نحو 200 عامل.. وتلقى رواجا بين السياح

عم محمد علي أحد أمهر «الصدفجية» في مصر («الشرق الأوسط»)
TT

على أنغام «الست أم كلثوم» يجلس محمد محمود علي «الصدفجي» في حانوته العتيق في منطقة خان الخليلي بالقاهرة، يرص بعناية قطع الصدف الصغيرة بجوار بعضها على علبة الشكمجية التي لا يكاد يخلو منها بيت مصري. يجلس بجوار روائعه الخشبية التي انتهى من تطعيمها بالصدف وتحار الأعين في تفضيل إحداها من جمالها، فهي تتنوع ما بين البارافانات والكراسي وعلب الشطرنج والطاولة والبراويز والمزهريات والمرايا والمناضد وغيرها من قطع الأثاث والتحف التي تعبق برائحة التراث الشرقي الأصيل وتزخر بعظمة فن الزخرفة الإسلامية.

يعتبر محمد واحدا من أمهر «الصدفجية» في مصر، وهم الذين تقوم على أيديهم صناعة التطعيم بالصدف، تلك الصناعة اليدوية التقليدية التراثية التي تجذب السائحين إلى مناطق مصر القديمة وخان الخليلي والحسين وتعد من أهم الصناعات التي توفر قطعا وهدايا تذكارية من الفلكلور المصري، وأوشكت أن تصبح تاريخا وذكرى خاصة مع قلة عدد المشتغلين بها والركود الذي أصبح وحشا يهدد العاملين بها بعد الانخفاض الهائل في أفواج السائحين.

وبسؤاله عن مهنة «الصدفجي» التي توارثها عن أجداده قال «أدخل أحد أجدادي وهو علي الصدفي تلك المهنة إلى مصر بعدما جاء إليها من دمشق، وكان ذلك في زمن المماليك، واشتهر بها جدي لوالدي في عهد محمد علي باشا وكان يقوم بصنع بعض الأثاث للقصور الملكية، وقد تعلمت المهنة من والدي وتعلمت منه أهمية إتقان العمل والصبر»، ويؤكد أن «مهنة الصدفي تتطلب قدرا عاليا من الحس الفني والذوق الجمالي، كذلك الصبر والقدرة على مواصلة العمل بنفس الدقة التي يبدأ بها، والقدرة على الابتكار والتجديد في رص الصدف وخلق أشكال جديدة من تكويناته، وغالبا ما يحتاج الصدفجي لقضاء 10 سنوات على الأقل لكي يصبح محترفا وماهرا».

ويشير محمد الصدفجي، ممسكا بملقط لالتقاط قطع الصدف الملونة، إلى أن «هناك عدة طرق للتصديف، فهناك الطريقة الإسلامية وتتطلب معها حفرا على الخشب، وهناك التصديف الهندسي أو التصديف بأشكال نباتية». ويتابع «يمر الصدف أولا بعملية صنفرة لكي يصبح أملس، ثم مرحلة تقطيع ليصبح قطعا صغيرة نسميها (مبرزة)، ثم تأتي مرحلة وضعها على الخشب، وهنا قد تحتاج القطعة لرسم بالقلم الرصاص عليها لكي يتم وضع الصدف وفقا لشكل هندسي معين، أو إذا كان الصدفجي على درجة عالية من الحرفية فهو يرتجل ويبتكر أشكالا متناسقة، لكنه غالبا ما يبدأ من منتصف القطعة الخشبية التي يعمل عليها ثم يتدرج إلى حوافها، ويستخدم الصمغ لتثبيت الصدف، وبعد تثبيته يتم برده بالمبرد حتى تصبح كل الأصداف على مستوى واحد، بعدها يتم مسحها بورقة (سمادش) حتى تصبح ناعمة ويتم دهنها بزيت معدني حتى تصبح لامعة لأطول فترة ممكنة».

ويرى محمد الصدفي أن صناعة التطعيم بالصدف ‏تواجه بالفعل خطر الانقراض على الرغم من أهميتها في جذب السياحة لمصر، وذلك لقلة المشتغلين بها والذين يقدر عددهم بنحو 200 عامل، وهو عدد قليل بالنسبة لصناعة يدوية تراثية يجب أن تلقى الاهتمام والرعاية بها خاصة أنها تحيي المزارات السياحية بمصر، فالسائح قد يدفع آلاف الدولارات نظير قطعة فنية مطعمة بالصدف، فهم يقدرون الأعمال اليدوية». ويشير إلى صندوق ملابس خشبي كبير قائلا «هذا الصندوق يستهوي الأجانب والعرب، فهم يعرفون قيمته جيدا، ويصل سعره أحيانا إلى 5 آلاف دولار، ففضلا عن الجهد المبذول لتطعيمه فإنه يعد قطعة أثرية قيمة».

وبفخر وزهو شديد بأعماله الفنية المعروضة، يلفت محمد إلى أن تلك الصناعة صامدة أمام الغزو الصيني، قائلا «الصينيون غزوا السوق بمنتجات خان الخليلي المقلدة، ومنها التماثيل والحلي الفرعونية وغيرها، لكنهم حتى الآن لم يتمكنوا من تقليد الصدفجية المصريين، فهم يبحثون عن ربح سريع ولا يستطيعون الصبر وتصنيع قطعة قد يتطلب تطعيمها أياما وأحيانا أشهرا بالنسبة للأثاث». ويؤكد محمد أنه «على الرغم من انتشار الأعمال المقلدة التي تقوم على الصدف البلاستيك، فإن الأعمال الفنية المصنوعة من الصدف الطبيعي لها عشاقها، فهي تختلف كثيرا عن المقلدة سواء في السعر أو في الجودة، فالمقلدة قد تباع العلبة الصغيرة منها والتي تكفي لوضع مصحف صغير بـ20 جنيها، بينما سعر الأصلية منها 200 دولار». ويرجع محمد ذلك إلى أن «الخامات الطبيعية من الصدف أصبحت غالية الثمن، وهو ما لا تتحمله السوق، كما أنها تتطلب الكثير من الوقت والمجهود لتقطيع الصدف إلى تلك القطع الصغيرة التي تشبه الفسيفساء. كذلك يتوقف السعر على نوع الخشب المستخدم في القطعة حيث تتعدد أنواعه ومنها الصندل والسرو والزيتون والجوز والصنوبر والورد.. وأيضا على نوع القماش المبطن للعلبة حيث كان في الماضي من الحرير الطبيعي وحاليا أصبح من القطيفة».

ويكشف محمد عن الفارق بين الصدف الحقيقي والصدف المقلد بأن الأخير لا يعكس سوى لون واحد بينما الطبيعي الحقيقي يعكس عدة ألوان إلى جانب اللون الأبيض. ويضيف «كان الصدف يأتي من البحر الأحمر وأصبح قليلا وسعره يتراوح من 40 إلى 50 جنيها للكيلوغرام. ولكن حاليا يتم استيراده من عدة دول ومنها اليابان والمكسيك والبرازيل، والياباني يصل سعره لـ100 جنيه وهو الأجود، وأغلى أنواع الصدف الذي يتم استخراجه من بيت اللؤلؤ حيث إنه يعكس ألوان الطيف».

وعلى الرغم مما يتحمله «الصدفجي» من مشقة كي ينتهي من إنتاج قطعة واحدة، فقد رفض محمد أن يترك مهنة أجداده معتبرا كل قطعة ينتهي منها جزءا منه عزيزا عليه، مؤمنا بأهمية صنعته، غير مبال بصرعة الحداثة والتكنولوجيا أو الكسب اليسير، رافضا التخلي عن أزميله أو صوت الست.