البستكية.. حي تراثي يصمد بوجه ناطحات السحاب في دبي

وجهة تراثية عالمية تستضيف الفعاليات وسوقها تعج بالأزياء والتحف والحرفيات

ورشة لطلاب المدارس في البستكية («الشرق الأوسط»)
TT

ظلت البستكية الحي الأكثر قدما وربما الأكثر شهرة وعراقة في دبي، حيث حاول الأهالي التمسك بتاريخهم وما تبقى منه أمام ناطحات السحاب التي تزحف في كل مكان، إلا أن غالبيتهم اختاروا الانتقال إلى السكن في أحياء الضواحي الحديثة. ويعود أصل اسم المنطقة إلى بلدة «بستك» الإيرانية التي انطلق منها أوائل التجار المهاجرين إلى دبي في بدايات القرن التاسع عشر، واستقروا فيها، ومن ثم أخذت المنطقة اسم بلدتهم التي جاءوا منها. وتمثل منطقة البستكية، كونها مهد التراث والثقافة العريقة في دبي، وجهة عالمية تضم مركزا متخصصا للثقافة والفنون يستضيف الفعاليات والمهرجانات والنشاطات المتنوعة، وينظم ورشات رسم لطلبة المدارس، في حين تقدم سوقها الأزياء والإكسسوارات المصنعة محليا، والتحف والمنتجات الفنية والحرفية، إضافة إلى دار للعرض ومقاه ومطاعم تتواصل مع ماض اختفى بصورة سريعة.

في تسعينات القرن الماضي اشترت حكومة دبي معظم المنازل من الملاك لحماية الحي المتهالك من مستثمري العقار باعتباره رمزا لما عاشه الإماراتيون في الماضي. كما أن منظمة اليونيسكو تهتم به لأهميته التاريخية.

في عام 1950 كانت هذه المنطقة تشكل كل بلدة دبي، أما الآن فتمثل أقل من واحد في المائة من المساحة الكلية لدبي الحضرية. وتتكون منازل البستكية من الحجر الأحمر والجبس والرمال، وتكسوها الزخارف المعقدة من الخشب والحجر. طرازها المعماري فريد من نوعه من خلال مبانيها المتراصة وأبراجها الشاهقة وأزقتها الضيقة التي تشير إلى مرحلة مهمة في تاريخ العمارة والتطور المدني والحضري للمدينة.

تقع البستكية في الشرق من إمارة دبي في منطقة بر دبي، وتمتد بمحاذاة الخور لمسافة نحو ثلاثمائة متر، وعمقها باتجاه الجنوب نحو مائتي متر، وتبلغ مساحتها حاليا 38 ألف متر مربع، حيث يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1890. وقد بدأت أعمال الترميم فيها عام 1996 وفق برنامج زمني مدروس لإعادة تأهيل المنطقة بكاملها لخصوصيتها العمرانية والمعمارية، وتقرر أن تكون منطقة نوعية للتراث، تعمل على تنشيط السياحة من خلال المتاحف والمراكز والمعارض والفنادق والأسواق التقليدية وغيرها. وما زاد من جمالياتها أن عمليات الترميم استخدمت المواد نفسها التي سبق أن شيدت بها مع نهايات القرن قبل الماضي، وهو ما حافظ على طابعها الأصيل، من خلال استخدام الخامات الأولية التي كانت متوافرة في البيئة المحلية آنذاك كالحجر المرجاني والصدفي والإسمنت الملون بلون الرمل، والأحجار الرقيقة والأخشاب والجص.

إن إعادة بناء هذه المنطقة التاريخية دفعت الحياة والنشاط مجددا إلى مبانيها، حيث تم توظيفها لتمارس فيها مختلف أنواع الأنشطة، كاستوديوهات تصوير برامج تلفزيونية، ومكاتب حكومية وشبه حكومية، إضافة إلى العديد من الخدمات التي تقدم للسائحين الأجانب، أو من المقيمين في الإمارات، ممن يتلمسون فسحة من الوقت تسمح لهم بتنفس عبق التاريخ وعراقته.

وقد اقتبست المباني طرزها المعمارية من جنوب إيران وجنوب شرقي آسيا والهند، وتأثرت بالقيم والعادات والتقاليد الموروثة والمكتسبة في المجتمع التي ارتبطت بمفهوم وفلسفة الدين الإسلامي عن العنصر الجمالي والفن التجريدي حيث تمثل مرحلة مهمة في تاريخ العمارة والتطور المدني والحضري لدبي، أرسى قواعدها أساتذة البناء الذين نفذوا مبانيها وتركوا بصماتهم عليها من خلال الأبراج الهوائية والأحواش والطرقات الضيقة بين البيوت (السكيك) والتي تعطي ظلا أكثر على الجدران وتساعد في زيادة سرعة الرياح.

وهناك أبنية متميزة أخذت أسماء جديدة، مثل مبنى مجلس غاليريا الذي شيده السيد مير عبد الله أميري سنة 1930، ويستخدم حاليا معرضا لبيع التحف التقليدية واللوحات الفنية، ومبنى دار الندوة الذي شيده السيد عبد الرحمن محمد فاروق عام 1925 ويعتبر من المباني ذات القيمة التاريخية الغنية بعناصرها المعمارية والتقليدية وأصبح مركزا مهما لعقد الندوات والمحاضرات وإقامة المعارض والدورات والمؤتمرات الصحافية.

وهناك فندق «إكس في إيه» الذي شيده أحمد قاسم الصديقي سنة 1960، ويتألف من طابقين، وله مدخلان، ويعلوه برجا هواء، ويتميز بساحة داخلية غنية بالعناصر المعمارية التقليدية، ويستخدم حاليا فندقا. فيما شيد مبنى مركز الشيخ محمد للتواصل الحضاري قاسم بن عبد الله البستكي عام 1944، ويتميز بوجود عناصر معمارية مختلفة، وأصبح مركزا مهما لتعزيز لغة التواصل الحضاري من خلال عقد اللقاءات والأنشطة المختلفة. أما مطعم ليالي البستكية فقد شيده عبد الرزاق عبد الرحيم البستكي، وهو أقدم مبنى في البستكية حيث بني عام 1895، ويتألف من طابقين، وغني بالعناصر التراثية المتنوعة من أبواب ونوافذ ومشربيات خشبية ولوحات جصية مزخرفة، ويستخدم حاليا كمطعم. في حين قام عبد القادر عبد الرحمن رشيدي بتشييد مبنى جمعية التراث العمراني، ويتألف من طابقين وغني بالعناصر المعمارية التقليدية المتنوعة، ويستخدم حاليا مقرا لجمعية التراث العمراني. كما شيد مبنى بوابة صحارى محمد حبيب الحجي عام 1854، ويتألف من طابقين بالإضافة إلى السطح، ويستخدم حاليا مركزا سياحيا وثقافيا وتراثيا.

البستكية.. من المناطق التراثية النادرة المتبقية في منطقة الخليج، واستطاعت أن تحافظ على طابعها المعماري كالأبواب الخشبية المنقوشة والنوافذ الخشبية والزخارف الجصية والتيجان والأقواس.