مصر: مقهى القذافي في قنا.. ملتقى الصم

يتمتعون بذكاء عال بعيدا عن صخب البشر

الإشارة بالأيدي لغة التواصل داخل المقهى («الشرق الأوسط»)
TT

في أحد أركان مقهى «القذافي» بوسط مدينة قنا، في صعيد مصر، انزوت مجموعة من الأشخاص بعيدا عن أصداء ضجيج السيارات وزحام الأسواق، في مشهد يسترعي انتباه رواد المقهى. ولدى محاولة «الشرق الأوسط» اختراق خصوصيتهم علمت أنهم من الصم ومن أبناء قنا الذين يأخذون من المقهى ملتقى شبه دائم، لشعورهم بأنهم فئة مهمشة ومتجاهلة في المجتمع.

في هذا المقهى، الذي يقال إن صاحبه أطلق عليه هذا الاسم لإعجابه بالعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، يأتي أفراد المجموعة كل مساء للترفيه عن أنفسهم مبتعدين عن مشاكل الحياة التي تصر على حرمانهم من حقوق كثيرة، وهناك، يناقشون أحوالهم والمستجدات التي تدور من حولهم.

قبل إجراء الحوار لمسنا بعض الصعوبات. وكان من الواضح أنه إذا تكلمنا إليهم بشكل مباشر قد يساء فهمنا أو نرتكب ما يمكن أن يثير حساسية معينة عندهم، وهم الذين بدا واضحا أنهم لا يثقون بالناس «لما لقوا منهم من معاملة غير طيبة»، حسب وصفهم. ولذا كان لا بد من الاستعانة بمترجم للإشارات ينقل صيغة السؤال والجواب بدقة وضمير.

كانت البداية مع حاتم الفولي، خبير الإشارات والناطق الرسمي باسم «جمعية المستقبل للصم وضعاف السمع» في محافظة قنا. وما يلفت إلى الانتباه، أن الفولي لم يتخل عن حركات اليد التي يتعامل بها مع الصم أثناء حديثه معنا. وقال لنا الفولي، إنه يعمل مع الصم منذ 20 سنة، وكان الدافع وراء دخوله هذا المجال الصعب، كما قال، شقيقته التي ولدت صماء، وهو ما استدعى إجادته التخاطب بلغة الإشارة حتى يجري التعامل الصحيح معها بالمنزل، وهذا بالإضافة إلى حبه لهذه الفئة التي تعاني من حرمانها من الكثير من الحقوق المشروعة. ولم ينس أن يشير إلى أن «الدولة لا تولي رعاية خاصة لهذه الفئة بل يجري تجاهلها بشكل مستفز».

وواصل الفولي كلامه فقال «حتى مساحة الأرض الخاصة بجمعية المستقبل للصم والمشهرة تحت رقم 513 لعام 1997 تكفلت دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بدفع نفقاتها واعتبرتها هبة منها للجمعية، كما تعهدت أيضا برعاية الصم عن طريق مساهمات مادية وعينية. وتقدم الجمعية أنشطة مختلفة للصم منها الثقافية والاجتماعية والرياضية ومحو الأمية والتدريب على المشغولات اليدوية».

وأوضح الفولي، أن الصم فئة تتمتع بنسبة ذكاء مرتفعة لكنهم يعانون أزمة ثقة، فهم لا يثقون في أي شخص بسهولة لما يلاقونه من متاعب في التعامل مع الناس في الشارع.

من جهة ثانية، قال محمد محفوظ خضري، وهو أصم ويشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية، إنهم «يعانون من التهميش والظلم، إذ القوانين الخاصة بهم مجرد ديكورات غير مفعلة، حيث إن قانون نسبة الـ5 في المائة الخاص بوظائف ذوي الاحتياجات الخاصة خارج نطاق التنفيذ، بالإضافة إلى عدم وجود بنود خاصة تخفف من حجم المعاناة التي يلاقونها أثناء إنهاء أي إجراءات أو أوراق في المصالح الحكومية».

ووافق محمد في رأيه مصطفى خيرت، وهو مثله أصم، وحاصل على دبلوم ثانوي فني للصم وضعاف السمع، إذ قال إن «تفعيل قانون نسبة الـ5 في المائة من الوظائف لذوي الاحتياجات الخاصة أهم مطالبهم حتى يحفظ لهم كرامتهم ولا يجعلهم عالة على ذويهم، ويتمكنوا من تكوين أسرة مثل بقية الناس». وأشار إلى أن ارتفاع الإيجارات يضيف عقبة جديدة إلى المشاكل والعقبات التي تواجههم.

وتابع خيرت أن «الصم يضطرون للعمل في وظائف لا تتناسب مع المؤهلات التي حصلوا عليها لكي يتمكنوا من الإنفاق على أنفسهم».

أما عن اختيارهم هذا المقهى للقاءاتهم دون غيره، فاعتبر الحاضرون أن جلوسهم في أي مقهى يرتبط بمستوى معاملة واحترام أصحاب المقهى لهم. وأكدوا أنهم يرفضون تماما ارتياد أي مقهى يقدم «ممنوعات» لرواده، كما يرفضون تماما تدخل أي شخص في شؤونهم الخاصة.

من جهة ثانية، قال لنا أصم آخر يدعى محمد مبارك، إن حصولهم على حقوقهم المشروعة سيخفف من نسبة التعصب التي يتعاملون بها مع المحيطين، مشددا على ضرورة احترام مؤهلاتهم، سواء كانوا من الشبان أو الفتيات لأنهم جزء من المجتمع ولهم حقوق مثل بقية أفراد المجتمع.

وختاما، أشار أشرف علي، وهو أصم ثلاثيني، إلى أن أسوأ ما يضايقه شعوره بالغربة بين الناس، مما يجعل من عملية التعايش مع المجتمع شديدة الصعوبة. وتابع أنه يتضايق جدا من نظرات من البعض فيها سخرية واستهزاء. ويوضح بالقول «هذا يغيظني ويثير أعصابي.. وممكن أتشاجر».

لكن، على الرغم من هذه الأوضاع الصعبة، قال أشرف إنه ما زال يتمنى أن تتغير نظرة المجتمع لفئة الصم وأصحاب الإعاقة «فهم ليسوا عالة على المجتمع، بل يستطيعون العمل الإنتاج في مجالات كثيرة».