دبي: مطعم «الفنر» يستحضر الزمن الجميل والطبق الأصيل

انقرض بعضها في دوامة الحداثة

جانب من مطعم «الفنر» التراثي في دبي («الشرق الأوسط»)
TT

في أجواء ستينات القرن الماضي، وعلى أضواء الفنر (الفنار) الخافتة، وبين جدران الطين المكسوة بالحجارة المرجانية.. وبنكهة المأكولات الإماراتية الأصيلة، يستعيد «مطعم ومقهى الفنر» ذكريات مدينة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة.

ومن وسط مركز «فيستفال سنتر» التجاري الحديث الطراز، يحكي مطعم «الفنر» لزواره، باتخاذه هذا الاسم، قصة الفانوس الذي طالما أضاء طرق الإمارات وبواديها.

قد يتخيل البعض من ديكوراته على أنه فيلم سينمائي سيبدأ التصوير فيه قريبا، والبعض الآخر يتخيله متحفا يفتتح أبوابه للتو. في حين أن آخرين يتخيلونه عشا لذكرياتهم عن سنوات التكوين والنشأة لبلد شق طريقه نحو حياة معاصرة، لكنه لم ينس ما خلفه له أسلافه الميامين من تراث خالد لا يموت.

هكذا تبدأ قصة هذا المكان، التي علقها هاشم المرزوقي، صاحب مطعم ومقهى «الفنر»، على لوحة خشبية في الباحة الخارجية للمطعم. إنها لوحة تعود بالناظر إلى حين كانت دبي بلدة صغيرة هادئة ترقد على ضفاف شاطئ الخليج العربي، بصفوف من البراجيل، وتحوطها واحات تتناثر فيها الخيام وبيوت العريش، حيث كان يعيش صيادو الأسماك والغواصون وتجار اللؤلؤ والعمال الحرفيون والبدو.

المرزوقي، أصلا، مهندس إماراتي متخصص ليس بالديكورات والتصاميم الداخلية بل في تصاميم مدن الملاهي، ويحمل شهادة من الولايات المتحدة في هذا الاختصاص الذي يطلق عليه بالإنجليزية مسمى «ثيم بارك». وقبل تنفيذ المشروع، زار مختلف الأماكن الأثرية والقديمة في دبي والإمارات من أجل «تنشيط» ذاكرته عن تراث الأسلاف، والتعرف على أسلوب الحياة الذي كان سائدا في فترة من فترات التاريخ.

وعن فكرة المطعم، قال هاشم المرزوقي لـ«الشرق الأوسط» شارحا: «انطلقت عندما قرأت خبرا يتساءل عن سبب انعدام المطاعم الإماراتية في (المولات) (مراكز التسوق) الحديثة الطراز؟ نعم، من هنا نشأت الفكرة.. وفكرت كيف يمكنني سد هذا الفراغ بمشروع جديد وقديم في آن واحد».

وتابع المرزوقي «وحقا، أجريت أبحاثا ميدانية فلم أجد مطاعم إماراتية بكل معنى الكلمة لا في (المولات) ولا في خارجها. بل حتى في رحلات (السفاري) التي يجري الترويج لها سياحيا، تقدم الأطباق اللبنانية، مع تقديري لشهرتها وذيوعها في أنحاء العالم. وعندها قلت في نفسي (لربما من المفترض تقديم الأطباق الإماراتية الأصيلة بمصاحبة تقديم تراثنا في البر، وهو ما يتلاءم مع نمط الحياة الإماراتية، إلى السياح). وهكذا وجدت نفسي مندفعا نحو فكرة تأسيس مطعم إماراتي بامتياز».

داخل باحة المطعم، تسترعي الناظر شجرة سدر كبيرة ذات أغصان وارفة، ومورقة بالخضار، تبدو للناظر إليها كأنها شجرة حقيقية. ولكن ماذا تفعل شجرة سدر ضخمة وسط المطعم؟ أجاب المرزوقي لافتا إلى أن الشجرة كانت تعتبر شيئا أساسيا بالنسبة للبيوت القديمة، إذ لم يكن للمكيف من وجود آنذاك، وكان الناس يجتمعون تحت ظلالها الوارفة يتحدثون ويرقدون ويأكلون».

لقد استوحى المرزوقي كل شيء من التراث، حتى قائمة الطعام وضعت بين دفتي «المهفة»، أي المروحة اليدوية التي كانت تستخدم لطرد الحر. وعندما يطلب الزبون الفاتورة، يأتي النادل بقارورة يرش منها ماء الورد على رؤوس الزبون ومن معه وبين أيديهم ليتعطروا، مذكرا بتفاصيل وتقاليد كانت سائدة في الإمارات آنذاك.

ومن جهة أخرى، حرص المرزوقي على أن يبث الأغاني الشعبية المصاحبة للطعام لكي يستحضر الأجواء كاملة. ثم إنه رفع صوت الأذان في أوقاته المحددة، وألبس نادل المطعم الزي الذي كان سائدا وقتها من النعول والكحفية والوزرة والكندورة، مستحضرا بذا مرحلة الستينات بكل تفاصيلها.

هذا، و«رغم أن المطبخ الإماراتي يستوعب أطباقا كثيرة، يبقى الهريس والثريد والخبيص واللقيمات من أشهر الوجبات الإماراتية»، بحسب قول المرزوقي. وأكد من ثم على حرص المطعم على تقديم التوابل الأصلية ذات النكهات الإماراتية الخالصة. وبالإضافة إلى فتح المطعم المجال أمام المقترحات، يدير المطبخ مجموعة من الطهاة أمضوا أكثر من عشرين سنة في إدارة فن الطبخ الإماراتي: «وهنا – حسب كلام المرزوقي - تنتصر وجباتهم المحلية على الهامبورغر والوجبات السريعة في هذا المول الحديث».

وحاليا، يعمل مطعم «الفنر» مثل «خلية نحل» تضج بحركة 60 عاملا. ويتسع لنحو 280 كرسيا، شاغلا مساحة تقارب الـ15 ألف قدم مربع، ما يجعل منه، بالتالي، أكبر مطعم من حيث المساحة في منطقة الـ«فيتسفال سنتر». وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه يبدو واسعا جدا.. بل أكبر من حجمه الحقيقي بفضل ديكورات البيوت الإماراتية الطراز، التي تتميز بالباحة الداخلية والفناء الخارجي، والسقوف الشاهقة.

وفي نهاية اللقاء مع «الشرق الأوسط» اختتم المرزوقي حديثه مشيرا إلى أنه «في عطلة نهاية الأسبوع يكتظ المطعم بالزبائن، الذين يقفون في طوابير بعض الأحيان، وبدخولهم إلى هنا يستعيدون أطباق الماضي التي انقرض بعضها في دوامة الحداثة التي تشهدها دبي».