شرطي مغربي هرب من عالم المخافر والمجرمين إلى فضاءات اللوحة

عبد العزيز حصري يعرض على قارعة الطريق.. وأنجح معارضه كان قبالة سجن

عبد العزيز حصري مع إحدى لوحاته («الشرق الأوسط»)
TT

يعرض الفنان التشكيلي عبد العزيز حصري لوحاته قرب سور في «حي الطيقان» بمدينة أصيلة (شمال المغرب).

كثير من الزوار والعابرين بين البرج البرتغالي وقصر الثقافة في المدينة العتيقة، يلاحظون وجود لوحات وضعت في تناسق لافت، قرب جدار أبيض طويل. وما إن يجول الناظر ببصره باتجاه البحر بألوانه الساحرة بين شروق وغروب، ثم يحني رأسه قليلا، حتى يشاهد ألوانا شكلتها ريشة فنان.. كأنها انعكاس للرؤية بين الطبيعي وألوان الطبيعة.

المثير في أمر هذا الفنان هو أنه في الأصل.. شرطي. نعم، إنه شرطي متقاعد تقاعد من سلك الأمن قبل سنتين. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن خلق تزاوج بين عمل الشرطي وإبداعات الفنان التشكيلي؟ أي كيف يحصل التناغم بين «الفنان» وعمل «الشرطي» في المخافر وعالم المجرمين؟

في أحيان كثيرة يعبر زملاء حصري وأصدقاؤه عن دهشتهم لقدرته على الجمع بين الأشكال والألوان..وبين أجواء الاستنطاق والبحث والتحري وعالم الإجرام. ثم إنه حين يقول لزوار معرضه، الموجود على «قارعة الطريق» إنه في الأصل شرطي، يتعجب هؤلاء إلى حد الذهول، بل منهم من لا يصدقه، مما يضطره أحيانا إلى إبراز بطاقة الشرطة.

ولد عبد العزيز حصري عام 1949 في مدينة مكناس، بوسط المغرب. وفي هذه المدينة التاريخية العريقة درس المرحلتين الابتدائية والإعدادية، قبل أن تحول ظروفه الخاصة دون متابعته الدراسة الجامعية. وبالتالي، عمل في إحدى الشركات الفرنسية متنقلا من مدينة إلى أخرى، إلى أن اجتاز مسابقة تنافس للانخراط في الشرطة عام 1973.

في لقاء مع «الشرق الأوسط» قال حصري إن أصيلة تظل أهم محطاته، فهي كانت أول مدينة يلتحق بها ويعمل فيها شرطيا بعد تخرجه في معهد الشرطة أواخر عام 1973، كما اختار من أصيلة شريكة حياته ورزق منها بأربعة أولاد.

ونظرا لطبيعة المدينة الساحلية الجميلة وما تعرفه من فعاليات خلال «مهرجانات أصيلة الثقافي الدولي»، ظلت أصيلة مصدر إلهام لهذا الفنان التشكيلي، فأنعشت فيه موهبة الفن بعدما كان قد أهملها لسنوات طويلة.. وبعد عدة محاولات باءت بالفشل. غير أن حصري برغم كل الصعوبات التي واجهته وتحفظ بعض زملائه في الشرطة على خياره، واصل سعيه ليعرض فنه على الناس.

وفي هذا السياق قال موضحا: «في الواقع واجهتني عدة مضايقات لم أعبأ بها لأن الفن لا يأبه للمضايقات فهو بحر لا حدود له». وبشأن مبادرته الأولى للرسم تذكر قائلا «لا أجد تفسيرا أوضح به الدوافع الحقيقية التي جعلتني أشتري ريشة وأدوات الرسم، لكنني أذكر فقط أن ذلك كان تلبية لرغبة داخلية دون تفكير».

ثم أوضح أنه قرر خوض تجربة الرسم والمشاركة بلوحاته في المعارض والمهرجانات، وكانت أول لوحة رسمها في أصيلة أواخر عام 1973، ويومذاك لقي تشجيعا من أناس عاديين وفنانين، فواصل انطلاقته الفنية، مع أن عمله لم يكن يسمح له بتخصيص وقت كاف لممارسة الرسم.

كان حصري متفوقا، وميالا جدا إلى مادة الرسم أثناء دراسته الابتدائية بخلاف باقي المواد الأخرى، وظل يعتبر الفن مادته المحببة، غير أن نزوعه للفن بقي مكبوتا داخله لسنوات طويلة. وحسب كلامه: «كنت حقا أقمع الرغبة في ممارسة الرسم، في كل مرة أشاهد فيها أعمال فنانين تنال إعجابي، لكنني لم أكن أقوى على المحاولة نظرا لطبيعة عملي».

بعد الزواج، عام 1975، انتقل عبد العزيز حصري إلى مدينة الناظور، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. هناك أمضى ست سنوات. ثم أمضى مثلها في مدينة تازة – بشمال وسط المغرب – إلا أنه لدى عودته إلى أصيلة استأنف ممارسة الرسم في أوقات الفراغ. وكان من المفارقات أنه نظم أول معرض له عام 2002.. بالذات أمام مبنى «السجن» في أصيلة.

حينذاك رسم 18 لوحة، بيعت كلها لمغاربة وأجانب، خلال بضعة أيام و«بأسعار مناسبة»، حسب قوله. إذ تراوح سعر اللوحة الواحدة ما بين 700 وألف درهم (ما بين 80 و120 دولارا أميركيا)، إلى جانب لوحات صغيرة أخرى بيعت في حدود مائتي درهم (نحو 24 دولارا).

بعدها زاد من شهرة حصري مشاركته في «موسم أصيلة الثقافي الدولي»، حيث التقى فنانين مغاربة وأجانب أعجبوا بلوحاته ولم يصدقوا أنه شرطي. بل اقترح عليه بعض الفنانين الأوروبيين، المشاركة في معارض فنية في بعض العواصم والمدن الأوروبية، إلا أن عمله في سلك الشرطة لم يسمح له بالسفر خارج المغرب.

بعد أصيلة عرض حصري لوحاته عام 2007 في رواق معهد الشرطة بمدينة القنيطرة، إلى الشمال من الرباط، وضم ذلك المعرض 34 لوحة تتناول مواضيع متنوعة. كذلك شارك في المخيمات الصيفية التي تنظمها إدارة الشرطة للأطفال، وكان يعمل معهم في ورشات الرسم والجداريات.

حصري يصنف لوحاته التشكيلية ضمن «المدرسة التراجيدية». ويشتغل في لوحاته على البيئة والطبيعة، ويطغى على معظمها اللون الأسود الذي يدخله في كل لوحة، وهو يفسر ذلك بسبب معاناة شديدة طبعت طفولته، مشيرا إلى أن اللون الأسود يحاكي ماضيه من الناحية النفسية، ولذا فهو يحاول توظيفه بأشكال متنوعة.

«الشرطي الفنان» هي الصفة التي بات يعرف بها عبد العزيز حصري وسط سكان أصيلة وينعت، وإن كان يسعده أكثر أن يلقبه الناس بـ«الفنان التشكيلي» فقط.