«سوق الاثنين» في تونس.. كل ما تميل إليه النفس وتشتهيه العين

سلع تروي نجاحات تجارها ومعاناتهم

سلع من كل الأصناف والأنواع في سوق الاثنين بتونس («الشرق الأوسط»)
TT

لم يمض وقت طويل على ظهور خيط الفجر الأبيض، وها هي ساحة «سوق الاثنين» امتلأت بالتجار القادمين من جميع أنحاء تونس وبدأوا بإنزال بضائعهم من شاحنات كبيرة ومتوسطة الحجم وصغيرة. السلع المعروضة مختلفة الأنواع والأحجام، من الأواني المصنوعة من البلاستيك والألمنيوم والفخار (السيراميك) إلى شتلات الزهور والملابس والبخور والعطور والبطاطين وفرش الأسرة وأدوات التجميل، المستوردة من الصين خصوصا، مرورا بالإلكترونيات والأحذية.

حتى الخضار والبقول والغلال كانت موجودة في سوق مترامي الأطراف، فيه جميع ما يخطر على البال، وتشتهيه العين.

وبينما وقف بعض الباعة يرددون عبارات دعائية لمنتجاتهم، لجأ البعض الآخر إلى استخدم أشرطة الكاسيت لبث العبارات الرنانة عن سلعه. وفي حين كان آخرون يتبادلون التحية مع بعضهم، تسمرت وجوه قليلة محلقة بمخيلتها إلى بعيد لا يدرك. وأخيرا، يكتمل المشهد بتوافد الزبائن الذين حضروا إلى هذه السوق تحديدا طلبا للسلع الرخيصة لدى مقارنتها بمثيلاتها لدى تجار الدكاكين، والأسواق التجارية المعروفة.

«الشرق الأوسط» توقفت عند أحد تجار فرش الأسرّة واسمه عمار العيتاوي (55 سنة) وسألناه عن تجارته، فأجاب «أعمل في تجارة الفرش منذ 30 سنة ولي 9 أبناء نعيش جميعا من هذا العمل». وفجأة قاطعت حوارنا امرأة في الخمسينات من عمرها، ترافقها ابنتها، كانت تريد شراء بعض الفرش الأسفنجية، إلا أن الأسعار لم ترق لها على ما يبدو، فقالت معلقة «لماذا هذا الغلاء؟، لم تكن هذه الأسعار بهذا الارتفاع!».

وكان هذا الكلام ما دفعنا لسؤال العيتاوي عن أسباب ارتفاع الأسعار لأنه من المفترض أن تكون الأسعار هنا أرخص من باقي الأماكن التجارية الأخرى، فرد قائلا «هذه المواد، بما في ذلك القماش، مستوردة من الخارج.. وتحديدا من الصين، والبعض الآخر من سوريا. وبسبب مكافحة التهريب والوضع الراهن في سوريا ارتفعت أسعار المواد الأولية، وخلال عام ونصف العام زادت الأسعار بنسبة 70 في المائة».

وبعد مفاصلته في السعر، اشترت السيدة وابنتها فرشتين ظافرة بتخفيض 10 دنانير من القيمة الكلية (أي بما يعادل 5 يوروهات تقريبا). وتابع العيتاوي حديثه معنا موضحا «يقدر سعر الفرشة الفردية بين 15 و35 دينارا أما الفرش الزوجي فيتراوح قيمتها بين 70 و100 دينار»، وأردف «الأسعار لا تخضع للعرض والطلب فحسب، بل تخضع أيضا للتكلفة وأجرة النقل وزيادة أسعار المواد الأولية القادمة من الخارج». وفي نهاية اللقاء، أعرب العيتاوي لنا عن رضاه على ما تدرّ عليه تجارته البسيطة قائلا «الحمد لله بنيت بيتا وأطعم أولادي من عرق جبيني.. وهذه التجارة لها مستقبل جيد».

وفي مكان ضيّق من السوق، استوقفنا خالد صخاب (32 سنة)، وهو أب لثلاثة أطفال، كان يحملق في وجوه المارة لعله يظفر بزبون، ويردد «مرحبا.. سلعة باهية وسعار بوبلاش»، (بمعنى تفضلوا سلعتنا جيدة وأسعارنا رخيصة). وردا على سؤالنا إياه عن فترة امتهانه هذه التجارة، أجاب صخاب «أتنقل بين الأسواق، وهذه هي حياتي.. منذ 18 سنة». وحول ما إذا كان يفكر في الاستقرار من خلال فتح محل لبيع مواد التجميل، قال «بالكاد أحصل على قوتي وقوت عيالي. ليس لدي المال الكافي لفتح محل خاص بي».

وبعدها أعرب صخاب عن شعوره بالتعب بسبب التجوال الدائم بين المدن التونسية، ثم أردف «لقد تعبت من التجوال كل يوم في مدينة حسب موعد السوق الشعبية، وأنا أتنقل بين سوسة والمهدية والقيروان وصفاقس وغيرها وأعيش على الكسكروتات (اللمجات أو الساندويتش)» بحسب وصفه.

إلى ذلك، لا تقتصر معاناة صخاب على التجوال فحسب، بل تراه يشتكي من قلة إقبال الزبائن على شراء مواد التجميل، وبالتالي يعاني من صعوبة في دفع فواتير الماء والكهرباء وتكاليف المعيشة. وعن التحديات الأخرى التي يواجهها في عمله أفاد بأنها تتمثل في الاستيقاظ منذ الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ومطالبة الديوانة (الجمارك) بكشف فواتير السلع وتحصيل الضرائب، على قاعدة من أين لك هذا.

على صعيد آخر، ليس بعيدا عن خالد صخاب كان هناك تاجر بدا وكأنه منفعل قليلا، حتى أنه أقحم نفسه في النقاش، وراح يسأل الجميع عن الدرجات التي حصلوا عليها في الثانوية العامة، مشككا في كل الأجوبة التي سمعها، مما دعانا للاقتراب منه والتحدث معه.

اسمه وردي المرادي (50 سنة)، وهو يبيع البخور والسواك التونسي والحناء، وكذلك الحرباوات التي يشتريها البعض اقتناعا منهم بأعمال السحر والشعوذة، وبعدما استفسرنا منه عن هؤلاء قال «هناك من يؤمن بهذه الخزعبلات، وأنا أبيع لهم ما يودون شراءه.. ثم إنني لو لم أبعه أنا للزبائن سيبيعه غيري لهم، هناك عقول لا ينفع معها أي شيء».

يمتلك وردي سيارة قديمة، ويعتز بأنه من بساطه المتواضع تمكن من تدريس ابنته التي وصلت إلى مرحلة الماجستير في اللغة الإنجليزية. وفي نهاية حديثه، أعرب وردي عن رضاه عن الأوضاع العامة في تونس، رغم الوضع المادي الصعب الذي يعيشه، وقال شارحا «السلع قبل الثورة كانت أرخص. هذا صحيح، ولكن جزءا من السبب هو التهريب (التجارة الموازية) هناك أناس أصبحوا أثرياء، ولكن ذلك أثر على ميزانية الدولة، وعجزت بالتالي عن التشغيل الذي أفضى إلى الثورة».