«مبنى بركات» يتحول إلى متحف ثقافي في بيروت

ذاكرة العاصمة اللبنانية وحاضرها في طيات طوابقه الثلاثة

هذا المبنى الذي شيد عام 1924 لم يفقد هيأته فقط بفعل مرور الزمن بل عانى الكثير مما خلفته الحرب من خراب
TT

لا يمكنك أن تمر في محلة «السوديكو» بمنطقة الأشرفية، شرق وسط العاصمة اللبنانية بيروت، من دون أن يلفت نظرك مبنى قديم لونه أصفر وحده لم يجر ترميمه، بخلاف ما يحيط به من أبنية. وهو يتألف من ثلاثة طوابق ذات هندسة معمارية تخرج عن المألوف، فيها الكثير من النوافذ والأعمدة.

هذا المبنى، الذي شيد عام 1924 تحت إشراف المهندس يوسف افتيموس، لم يفقد هيأته فقط بفعل مرور الزمن، بل عانى الكثير مما خلفته الحرب من خراب وويلات كانت لها البصمة الأبرز على ما تبقى من معالم هذا المبنى.. أو كما يعرفه اللبنانيون «بنية بركات».

المبنى ينسب إلى مالكه نيقولا بركات، وهو معروف أيضا بـ«المبنى الأصفر»، الذي يقع على مفترق طرق يفصل بيروت بين البسطا في غربها والأشرفية في شرقها. وهو الآن سيتحول إلى متحف «بيت بيروت» بعدما تسلمته بلدية بيروت وبالتعاون مع بلدية باريس وضعت أخيرا حجر الأساس لمشروع ترميمه وإنقاذه من موجة هدم فظيعة اجتاحت غالبية البيوت القديمة في عدة أحياء بقلب العاصمة اللبنانية. وبالتالي أدرج اسمه في لائحة البيوت التراثية التي سيحافظ عليها كإرث ثقافي ينتقل من جيل إلى آخر.

أسدل القائمون على المشروع غطاء كبيرا على واجهة المبنى الأمامية كتبت عليه عبارة «متحف لذاكرة مدينة بيروت». وبحسب تعبيرهم، سيكون بمثابة معلم أثري من نوع آخر يحمل في طياته وطوابقه الثلاثة قصة المدينة منذ العهد العثماني حتى اليوم، ومن المتوقع أن يُفتتح عام 2014.

المهندسة منى الحلاق، عضو اللجنة التنفيذية للحفاظ على التراث (ابساد)، كانت أول من اكتشف أهمية «مبنى بركات» عام 1994. غير أنها في عام 1997، لاحظت أعمال هدم تجرى فيه، وتُنقل منه الحجارة والبلاط، فأعلمت بلدية بيروت بالأمر، واستطاعت إيقاف هذه الأعمال. لكن العمل على إصدار مرسوم الاستملاك للبلدية طال حتى عام 2003. وفي أعقاب وضع البلدية يديها فعليا على المبنى، وذلك في عام 2008، واصلت الحلاق الجهود والاتصالات من أجل ترميمه وتحويله إلى متحف.

وحقا، نجحت جهود منى الحلاق ورفاقها من المهتمين بالتراث، وشهد هذا العام وضع حجر الأساس لبدء عملية الترميم من قبل شركة «الجهاد للمقاولات»، التي تبنت أعمال الترميم وفق مخطط وضعه المهندس المعماري يوسف حيدر الذي سيشرف على مراحل المشروع بالكامل.

على صعيد آخر، وضع المشرفون على المتحف تصورا لأقسامه على امتداد الطوابق الثلاثة، بما فيها مدخل المبنى - أو «البناية» - الذي شغلته في الماضي محلات تجارية معروفة في المنطقة كمحل «بوظة العويني» الذي كان يستقطب أهالي بيروت ليتذوقوا البوظة (المثلجات أو الآيس كريم) العربية، ويستميلهم صاحبه من خلال تشغيل اسطوانات غنائية للمطربتين الراحلتين نور الهدى ولور دكاش.

كذلك كان بجانبه محل «أفرام» للسيدات، ويعود إلى حلاق نسائي يُدعى أفرام، عرف بتسريحاته الجميلة، وبأنه أول من ابتكر تصفيفة شعر «الشينيون» النسائية من عدة طبقات.

وفي جولة خاصة بين أرجاء المبنى، ذكرت المهندسة منى الحلاق لـ«الشرق الأوسط» أن مدخل الواجهة الأمامية سيتحول إلى مكتبة وكافيتريا ومركز لبيع التذكارات السياحية، بينما سيكون الطابق الأول من الجهة الغربية، حيث كان يتمركز القناصون أيام الحرب، وما زالت متاريس الرمل تسكنه حتى اليوم، مكانا مخصصا لذاكرة الحرب اللبنانية، وسيسلط الضوء على الجانب الإنساني لها، ولكن من دون تواريخ أو أسماء.

وتابعت الحلاق «أما الطابق نفسه من الجهة الشرقية فكان لطبيب وجراح أسنان هو الدكتور نجيب الشمالي، سيكون هنا بمثابة أرشيف حي لتاريخ بيروت منذ أيام العثمانيين، مرورا بحقبة الانتداب الفرنسي، ووصولا إلى عهد الاستقلال وزمن بيروت الجميل، وذلك من خلال مجموعة أوراق ووثائق عُثر عليها في شقة الطبيب»، ولقد عاينتها المهندسة منى الحلاق شخصيا.

وبدوره، سيتضمن الطابق الثاني من المبنى تاريخ مدينة بيروت وتطورها العمراني منذ أواخر القرن الثامن عشر مع بداية العهد العثماني حتى يومنا هذا. وسيجري تقديمه بطريقة متطورة تقنيا تستخدم فيها وسائل تكنولوجية بحيث لا تكون جامدة تقتصر على رفوف مرصوصة تعرض فيها مقتنيات هذا المعرض، بل ستكون ديناميكية وتفاعلية.

المهندسة الحلاق حرصت خلال حديثها على شرح خصائص كل طابق من المتحف، وحول الطابق الثالث قالت شارحة «إنه سيفرّغ وتفتتح مساحته بعضها على بعض، بحيث تكون هناك فسحة كبيرة ومضيئة تستضيف معارض تشكيلية من رسم وصور فوتوغرافية، تتاح أمام أي فنان يرغب في عرض أعماله، وتكون بالدرجة الأولى لها علاقة مباشرة بمدينة بيروت».

أخيرا، ولأن المتحف سيكون بحاجة إلى دعم مالي يغذيه مباشرة لتغطية مصاريفه الخاصة، فقد اقتُرح تحويل سطح المبنى إلى مطعم يستقبل زوار المتحف الذين يرغبون في أخذ قسط من الراحة، أو من الزبائن العاديين الذين يرغبون في تمضية جلسة جميلة في مكان يشرف على أحياء بيروت وأزقتها. أما الميزانية التي رصدت لهذا المشروع فقد لامست الـ18 مليون دولار مقدمة بكاملها من قبل مجلس بلدية بيروت.