تونس: موسم جني التمور يكشف عن مشاكل أصحاب الواحات

عزوف الشباب وجشع الوسطاء أهم التحديات هذا العام

تخفي عمليات جني التمور في طياتها الكثير من التحديات والمشاكل التي ترهق أهالي الواحات وأصحابها
TT

على مدى شهرين ونصف الشهر في مثل هذا الوقت من كل عام، تعيش الواحات التونسية أجواء جني صابة (المحصول) التمور، التي من المتوقع ألا يقل إنتاجها عن 115 ألف طن من بينها نحو 100 ألف طن من نوع «دقلة النور» الممتاز، وهو أفخر التمور التونسية.

وعلى الرغم من الارتفاع الهائل في أسعار التمور عالميا، وبالتالي انعكاسه إيجابيا على قيمة العائدات، تخفي عمليات جني التمور في طياتها الكثير من التحديات والمشاكل التي ترهق أهالي الواحات وأصحابها، وتجعل مرور موسم المحصول صعبا للغاية. فلقد ازدادت أسعار الكيلوغرام من التمور من ثلاثة دنانير تونسية (أي نحو دولارين أميركيين) في أقصى الحالات من مناطق الإنتاج إلى أكثر من أربعة دنانير، مما انعكس بشكل ملحوظ على الأسعار عند الاستهلاك. ولكن في المقابل، يعد نقص اليد العاملة المتخصصة وغلاء أجور العمال المهرة الذين يجيدون تسلق أشجار النخيل وقطع شماريخ التمور، من أهم المشاكل التي تواجه أصحاب غابات النخيل. والواقع أن الهكتار الواحد من التمور يحتاج إلى جهود 10 عمال لمدة أسبوع على الأقل، وهو ما يرفع من تكلفة الجني التي يتحملها في معظم الحالات صاحب واحة النخيل.

إلى ذلك، يتعاون الجميع من أجل تأمين محصول هذا الموسم بطرق متعددة، من بينها فتح منازل العائلات أمام عمليات فرز التمور، ومن ثم تغليفها تأهبا لتسويقها، سواء في الأسواق المحلية أو الأسواق الخارجية التي تترقب مطلع كل موسم من التمور التونسية بفارغ الصبر نظرا لشهرتها بالجودة والمذاق الجيد.

في هذا الصدد، قال عبد الملك العثماني، وهو صاحب غابة نخيل لـ«الشرق الأوسط» في حديث مع الفلاحين وأصحاب الواحات «المخضرة» وهم الأشخاص الذين باعوا المحصول وهو ما زال على الشجر قبل جنيه إلى وسطاء يأتون إلى الجنوب التونسي من مناطق كثيرة من تونس، وباتوا اليوم يعتمدون على سواعد أفراد العائلة من أجل توفير مرتبات العمال المرتفعة للغاية. وتابع مفسرا «أغرت الشباب وظائف أخرى تتميز باستمراريتها طوال السنة، وتؤمن الاستقرار المادي على غرار العمل في المدن وكذلك التجارة في التمور، بدلا من تسلق أشجار النخيل والعمل لساعات طويلة داخل غاباته».

وإلى جانب التحديات التي تواجه أصحاب الواحات، رأى العثماني أن «تحول معظم الدكاكين في مدينة توزر، على سبيل المثال، إلى متاجر لبيع التمور خلق منافسة حادة مع بقية الفلاحين وأصحاب غابات النخيل في مسألة تحديد الأسعار التي ترضي كل الأطراف، فالتاجر يستقبل الصابة جاهزة ويحدد هامش ربحه كما يشاء، أما الفلاح فيبقى مثقلا بعدة مصاريف مضنية». ثم أوضح أن بعض العائلات القاطنة في مدينتي توزر وقبلي، اللتين تعدان من أهم مناطق إنتاج التمور في جنوب تونس حولت هذه المناسبة إلى ما يشبه العرس العائلي، إذ عمدت إلى إنشاء مصانع مصغرة داخل المحيط ومنزل العائلة تستعين بأيدي أفرادها بدلا من الاستنجاد بأشخاص آخرين.

هذا، وأدت ظاهرة نقص العمالة المتخصصة في جني محصول التمر، إلى دخول العنصر النسائي غمار هذه المهنة. واعتبر العثماني أن «بعض النساء اللاتي كن في السابق يتحرجن من الخروج إلى مصانع تحويل التمور في المحافظة، أصبحن يتسلمن التمور في منازلهن، حيث يصار إلى فرزها في المنزل بدلا من تمضية يوم بأكمله في المصنع. ولقد وضع أصحاب المصانع أنظمة العمل للنسوة العاملات يعتمد على عدد الساعات المشتغلة أو العمل لنصف يوم فقط، وهذا الأمر أتاح لكل الأطراف إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد، وهكذا في حين استغلت النساء والبنات عزوف الشبان عن ممارسة مثل هذه الأنشطة للاستئثار بها لأنفسهن وضمان مداخيل إضافية لفائدة العائلة».

ومن منظور عاطفي للصعوبات التي تعتري جني محصول التمر، أشار جمال الدين بن محمد، وهو صاحب مصنع تحويل عائلي، إلى أن «شباب اليوم نسي صنعة الأجداد وتغافل عن شجرة النخيل التي أطعمت أجيالا متتالية». وأردف «إنما لم تعد لهم القدرة الكافية لصعود النخلة وكثرة منهم ما عاد يغريهم ظلال الواحة وحفيف أشجار النخيل». ثم استطرد قائلا، إن «من لم يصعد النخلة في صباه الأول ومنذ الصغر لا يستطيع صعودها على كبر، فالنخلة ترعى بالعشرة ولا تخون من ارتبط معها ولو بعد سنوات طويلة».

ولخص جمال الدين مشاكل الواحات في «ثلاث معضلات» على حد تعبيره، وقال شارحا «أولا، أنها تعاني من نقص فادح على مستوى اليد العاملة المتخصصة وغلاء أجورها، وثانيا، من قلة مياه الري، وثالثا من تكاثر عدد الوسطاء الذين يشترون التمور من الفلاح لفائدة الوساقة (عبارة محلية يعنى بها المصدرون) الذين سيطروا على السوق وفرضوا أسعارا للتمور وباتوا يتقاسمون مع الفلاح عرق وتعب سنة كاملة من الجهد».

وفي مقارنة الأوضاع قبل الثورة التونسية وبعدها، اعتبر جمال الدين، أن «الوسطاء اشتروا في السابق التمور بأسعار لا تتجاوز الدينار ونصف الدينار (أي نحو دولار أميركي واحد) للكيلوغرام، وكانوا يربحون أضعاف تلك الأسعار، لكن الفترة التي تلت الثورة خلقت أوضاعا جديدة ومصاريف جديدة تضرر منها صاحب غابة النخيل من جديد، أهمها تعرض صابة التمور للسرقة، وإتلاف غابات النخيل بالحرق في بعض الحالات، بالإضافة إلى الضغط النفسي المسلط على الفلاح من قبل الوسطاء وسيطرة الديون على عقل صاحب الضيعة الذي ينتظر بيع المحصول من أجل الديون المتراكمة والموقوفة على بيع المحاصيل».