«حي الصالحية» .. درة الحرف اليدوية في القاهرة الفاطمية

أنشأه السلطان الصالح الأيوبي ودفنته فيه زوجته شجرة الدر

ملامح الجمال والعراقة لا تزال تحتفظ برونقها في حي الصالحية.. ملتقى الحرف التقليدية («الشرق الأوسط»)
TT

بمجرد أن تطأ قدماك شارع المعز الذي ما زال يحتفظ بمعالم فترة الحكم الفاطمي في العاصمة المصرية القاهرة، حتى تشعر بأن عند كل خطوة أثرا يحكي قصة أو حدثا تاريخيا. وما إن تدلف إلى «حي الصالحية»، المتفرع من شارع المعز، ينتابك شعور بأن كل بقعة فيه كتاب مفتوح على الماضي والحاضر معا. وحتى يومنا هذا، ظل حي الصالحية يرسم بجذوره التاريخية الممتدة «جغرافيا» من نوع خاص، ويتفاخر باحتفاظه على ملامحها وبهائها القديم.

ترجع تسمية الحي بهذا الاسم إلى السلطان الصالح نجم الدين الأيوبي، عندما أمر ببناء المدرسة الصالحية عام 641هـ - 1243م، وكانت آنذاك أول مدرسة تفتح أبوابها لطلاب المذاهب السنية الأربعة. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، روى علاء عاشور، مسؤول الآثار في حي الصالحية، حكاية المكان، فقال: «في هذا الحي، يقف الزمن وفي جعبته الكثير، بسبب طبيعة المعيشة والسكان الذين ينظرون إلى الحداثة والتكنولوجيا على أنها نوع من الرفاهية لا حاجة لهم بها، فالأرض غير مزفتة (مسفلتة)، بل تغطيها إلى اليوم قطع من البلاط البازلتي الذي يعود إلى العصر الأيوبي». وأردف «كذلك تحتفظ أغلب البيوت بقطع المشربيات (الغرف الصغيرة المشرفة على الخارج والمصنوعة من الخشب) على نوافذها... أمامها صينية من الألمنيوم تتراص عليها القلل (الأواني الفخارية) المملوءة بالماء البارد طوال الصيف. وهذا بالإضافة إلى عدد لا بأس به من الأزيرة (جمع زير أي الجرة) المنتشرة في الشارع لتروي ظمأ المارة من العطش بديلا عن مبرد المياه الكهربائي».

وحقا عند تجوال الزائر في أرجاء الحي، فإنه يتعرف على الكثير من الحرف اليدوية التي شارفت على الاندثار لندرة العاملين فيها، مثل التصديف والزجاج الملون وترميم العاديات (الأنتيكات)، وطرق المعادن، وتبييض النحاس وغيرها.

ما يذكر هنا، أن الحي عموما والمدرسة الصالحية وملحقاتها بصفة خاصة، لم تطرأ عليهم أي أعمال ترميم إلا مع بداية عام 1992 نتيجة بعض الأضرار التي لحقت بالمكان نتيجة الزلزال الذي ضرب القاهرة يومذاك. وحتى اليوم، يحتفظ الحي بالكثير من الجدران والأبواب الأثرية التي كانت تابعة لبعض الكتاتيب، والأسبلة (جمع سبيل)، والدواوين التي بنيت على مر العصور.

وحول ملامح الجغرافيا الخاصة بالحي، أوضح عاشور أن الحي «يشكل مربعا متكامل الأضلاع، إذ إنه يمتد من شارع المعز غربا إلى خان جعفر شرقا، ومن بيت القاضي شمالا إلى سكة الباديستان جنوبا. ويتوسط هذا المربع المدرسة الصالحية، إلى جانب سبيل وكتاب (خسرو باشا) الذي بني عام 1535م، في حين يتلاصق سبيل ومدرسة الظاهرية مع المدرسة الصالحية التي بناها السلطان الصالح نجم الدين الأيوبي الذي عرف عنه حبه الشديد للعمارة، فكان يشرف على خطوات البناء بنفسه. وبعد بضع سنوات، أمرت زوجته شجرة الدر بأن يدفن فيها بعد مقتله في معركة المنصورة، ومن ثم تفننت هي الأخرى في بناء القبة والجامع، فباتت المدرسة الصالحية أول مدرسة تضم قبة ومقبرة».

على صعيد آخر، عزا عاشور اكتساب الحي شهرة عالمية إلى «شهرته الأثرية وانتشار الحرف اليدوية القديمة فيه، مما جعله مقصدا مهما للسياح، ولا سيما أولئك الذين يبحثون عن التميز والإتقان. ثم إنه المقر الأساسي لتجارة الأحجار الكريمة ونصف الكريمة، وفيه عدد كبير من ورش الحلي التي تصمم بالطريقة اليدوية لليوم، وهذا بالإضافة إلى مصوري الأفلام التسجيلية الذين يفضلون هذا الشارع عن غيره لعبقه التاريخي».

وعلى باب دكان صغير، لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار مربعة وتتكدس على أرففه والأرضية قطع من الأنتيكات المتنوعة، يخيل للوهلة الأولى أنها مغارة «علي بابا»، يجلس الحاج أحمد صالح، (75 سنة)، وهو أحد العاملين في مجال ترميم وشراء قطع الأنتيكات القديمة، ويعد من أقدم أصحاب الدكاكين المنتشرة في حي الصالحية. وفي حوار معه، قال لنا: «رغم أن الكثير من الدكاكين في الأحياء المجاورة غيرت نشاطها لكي تواكب العصر، ظلت العراقة ميزة الصالحية... التي تحافظ على بقائها الأجيال. هذا الدكان ورثته عن أبي، الذي أوصاني بألا أترك مهنة الأجداد، وأنا بالتالي، قمت بتوصية أبنائي»، معتبرا أن «العمل في مجال الأنتيكات مثل المؤرخ الذي يسجل الحدث لكي تقرأه الأجيال»، على حد تعبيره.

وبعدما تناول من على أحد الأرفف شمعدانا صغير الحجم من الفضة الخالصة، قال الحاج: « لقد اشتراه والدي بعشرين جنيها منذ أكثر من خمسين سنة من أحد قصور حي المعادي في مزاد علني، واليوم يقدر سعر هذا الشمعدان بآلاف الجنيهات للقيمة التاريخية التي يحملها والتي يأتي من أجلها هواة اقتناء الأنتيكات من جميع أنحاء العالم لثقتهم الشديدة بما يشترونه من هنا». وبالفعل، إلى اليوم، ما زالت جدران بعض الأبنية تحتفظ بآثار العبارات الصوفية التي انتشرت في العصر الأيوبي، بالإضافة إلى الأبواب الخشبية الكبيرة ذات الحلقات النحاسية المنقوشة يدويا بعناية فائقة.

وقبل مغادرة الشارع، لا بد أن يلاحظ الزائر في نهاية زيارته أنه يمر من بوابة كبيرة كانت تغلق على أهل الحي بعد صلاة العشاء ولا تفتح إلا فجرا في اليوم الثاني، بيد أنها بمرور الأيام بدأت تتلاشى ولم يبق منها سوى صدى الذكريات الجميلة.