مرسى «دار بوعزة» في المغرب.. بحرها واسماكها مصدر رزق سكانها

حيث يلتقي الأغنياء مع الفقراء للاستمتاع ببساطة المكان

الصيادون يستعدون لبيع مارزقهم الله من البحر («الشرق الأوسط»)
TT

على بعد نحو 20 كيلومترا جنوبي الدار البيضاء، كبرى المدن المغربية، على شاطئ المحيط الأطلسي تقع قرية صغيرة تشتهر في المغرب باسم «المريسة الصغيرة»، أو «مريسية دار بوعزة»، تصغيرا للمرسى الكبيرة، أي الميناء في الاصطلاح البحري. ولقد تردد اسمها إبان عصر الحكم الإسلامي، موثقا في عدد من أمهات الكتب العربية القديمة ولا سيما كتب رحالة العرب الأوائل.

البحر.. هو أبرز مصادر رزق سكان قرية دار بوعزة، وذلك بعدما فقدت كثيرا من مؤهلاتها الزراعية قبل نحو 30 سنة بسبب ملوحة مياه الآبار. ولكن حتى البحر ما عاد معطاءً كما كان، وإلى يومنا هذا، ما زال شيوخها وكبار السن من أهلها، يتذكرون في وقت مضى كيف كان البحر سخيا أكثر، مع أن إمكانيات صيد السمك كانت ضعيفة جدا، وكان عدد البحارة متواضعا يمكن عدهم على رؤوس الأصابع.

«كل شيء تغير الآن.. وحده المكان لم يطرأ عليه تغيير» على حد تعبير أحدهم.

في زيارة خاصة قامت بها «الشرق الأوسط» للقرية، حيث لخص المشهد ذاته أمام الزائر بمسجد صغير وساحة لركن السيارات، وشارع ضيق صغير تقف فيه عربات بيع بعض الخضراوات، التي تناسب طبق السمك المشوي، كالطماطم والزيتون بأنواعه المختلفة والبصل. بالإضافة، طبعا، إلى مشهد الساحل بما فيه الصيادين والقوارب.

ولدى الدخول أكثر في تفاصيل المكان، يمر الزائر بزقاق في نهايته منحدر إسمنتي يسهل عملية انزلاق المراكب الصغيرة إلى المياه. وتتراص على الجانب الأيمن للمنحدر نزولا أربعة دكاكين لبيع السمك الطازج تحتوي فقط على صناديق، بعضها خشبي وكثير منها من البلاستيك الأبيض، وفيها كثير من الأسماك.

أما على الجانب الأيسر، فترقد كثير من المراكب الصغيرة، التي بعضها ينتظر دوره في النزول إلى البحر، وبعضها الآخر يخضع لعملية صيانة، لا تتجاوز عادة أكثر من إعادة الطلاء والعناية البسيطة ببعض المعدات. ومن مردود تلك المراكب التي يبلغ عددها 120 مركبا يعيش نحو 1500 شخص.

ثم على المنحدر، على مسافة غير بعيدة عن دكاكين بيع السمك، يصطف 12 مطعما صغيرا لشواء الأسماك وإعدادها، وجميعها تتشابه، من حيث التصميم والخدمات المقدمة. فالموقد التقليدي يعمل على الفحم الخشبي ويقبع في آخر المطعم، والكراسي البلاستيكية المختلفة الألوان وضعت في واجهته. ومعظم المطاعم – وهي أيضا مقاه – صنعت هياكلها من بقايا ألواح خشبية وقصديرية، والقليل منها بني بالإسمنت والطوب الأحمر.

هنا، في مطاعم دار بوعزة، يتجاور المقتدرون ماديا من الباحثين عن السمك الطازج، مع الفقراء الباحثين عن السعر المناسب. والصورة كالآتي: يشتري الزبون السمك الذي يشتهيه، فينظفه ويعده مساعد البائع للشواء، ويأتي به إلى عمال المطعم أو المقهى. في الغالب ينحصر عدد هؤلاء بثلاثة أشخاص بينهم نساء، يتولون وضع السمك فوق موقد الفحم بعد أن يلف بأوراق الألمنيوم وتضاف إليه كميات من التوابل المشهية، وهناك من يفضل شوي السمك من دون ورق الألمنيوم. ثم تكتمل الصورة، برائحة أبريق من الشاي المنعش مع النعناع، الذي يقدم مع نهاية الوجبة، بالإضافة إلى إطلالة آسرة لمنظر البحر والأفق المترامي.

رواية قرية دار بوعزة لم تنته بعد. ذلك أن الأحداث الشيقة تبدأ بعودة مراكب الصيادين إلى المرسى حاملة رزقها من السمك، وكلما اقتربت أكثر.. زادت حركة أصحاب محلات بيع الأسماك وبعض الوسطاء في اتجاه المنحدر.

ترسو المراكب، ويبدأ العمال في إفراغ حمولتها ويتحلق حولها كثيرون.. هذا فضولي يريد أن يشبع فضوله، وذاك بائع يريد أن تكون الحمولة من نصيبه، وبين هؤلاء وأولئك زبون يريد أن يشتري سمكا طازجا.

إلى ذلك، تتم عملية تفريغ حمولة المراكب بعشوائية وبمشقة واضحة، إذ لا توجد أمكنة معدة لرسو المراكب فيها، وأخرى مخصصة لإنزال البضاعة.

وتبدأ عملية البيع بالمزاد، وأحيانا يجري البيع للمستهلك مباشرة، خاصة، إذا كانت الحمولة بسيطة.

التهكم والتشنج من أبرز الأساليب الفعالة في البيع والشراء في هذه السوق، وقد تصل الأمور إلى منتهاها في عملية المفاوضات إذا لم يكن البيع بالمزاد، حتى ليتصور المشاهد الحاضر أنه أمام ساحة عراك وليست ساحة بيع. وهذا بالفعل ما حدث أمامنا، فأحد المراكب كان يحمل سبعة صناديق خشبية صغيرة تحتوي أسماكا مختلفة الأنواع والأحجام والألوان. ولقد عرض أحد المشترين مبلغ 700 درهم (82 دولارا أميركيا) بمعدل 100 درهم للصندوق (أي 12 دولارا) مما أثار حفيظة رئيس المركب، فأمر المشتري، بغلظة، بمغادرة مركبه فورا والامتناع عن مس أسماكه، قائلا: «أهون علي أن أرميها في البحر من أن أبيعها لك بهذا السعر. وعموما لن أبيع بأقل من 1500 درهم (176 دولارا).. وليتقدم من يريد المليح» على حد تعبير رئيس المركب. وعندها رد عليه الآخر باستهزاء: «هل تعتقد أنك أتيت بوبشوك (وهو نوع من السمك غالي السعر)؟».

عادة، لا يقل عدد العاملين على كل مركب عن ثلاثة أشخاص، بينهم رئيسه، وهو ممن خبروا البحر ومصايد السمك. ويتولى الرئيس قيادة المركب بأن يجلس في مؤخره، ممسكا بذراع المحرك الآلي، بينما يتولى الآخران عملية رمي الشباك في المكان المتفق عليه، ثم سحبها في ما بعد. ويدخل البحر كل مركب مرتين في اليوم، المرة الأولى لنصب الشباك ووضع علامات حولها كي لا يمزقها محرك مركب أخر.. وغالبا ما يكون الخروج الأول في الخامسة صباحا، أما المرة الثانية ففي العاشرة أو الحادية عشرة صباحا.. لسحب الشباك من البحر سواء علقت بها بعض الأسماك أو ظلت فارغة.