«شربت الحاج زبالة» في بغداد.. 100 عام من مذاق زبيب كردستان

زاره معظم ملوك وحكام العراق القدامى وعزف عنه حكامه الجدد خشية استهدافهم

مجموعة من صور الملوك والرؤساء العراقيين الذين زاروا المحل («الشرق الأوسط»)
TT

لم تبدأ شهرة محل «شربت الحاج زبالة» الذي استهل مشواره قبل قرن من الزمان بسبب اسمه الغريب، بل بسبب جودة عصير الزبيب (العنب المجفف) الذي يقدمه لزبائنه، ولم يزل المحل الشهير في جانب الرصافة ببغداد محتفظا بعلامة فارقة في ذاكرة العراقيين، كونه شهد تاريخا حافلا بالأحداث والمتغيرات منذ ما يزيد على مائة عام على افتتاحه، وهو يفتخر بتزيين جدرانه بمعظم صور زواره من الحكام والملوك الذين تعاقبوا على حكم العراق منذ نشأته، لكنها خلت من صور حكام هذا الزمان، بسبب خشيتهم من استهداف مواكبهم، كما يقول صاحبه.

افتتح محل الحاج زبالة في عام 1908، في مدخل جسر الشهداء أولا، وهو مختص بتقديم شراب الزبيب، كما كان يقدم الجبن الأبيض المحلى مع الصمون (الخبز) العراقي المميز خاصة عند الصباح ليكون وجبة فطور الموظفين والعمال وحتى طلبة الجامعات المبكرين إلى مراكز عملهم ودراستهم. ثم انتقل إلى موقعه الحالي في منطقة الحيدرخانة بشارع الرشيد، أول وأشهر شارع في العراق، حتى تحول إلى نقطة دالة وعنوان بارز في قلب العاصمة العراقية.

ملوك ورؤساء الحكومات والجمهورية تعاقبوا على زيارته وتذوق العصير الذي يقدمه، وكان في مقدمتهم الملك غازي ابن فيصل الأول، ثاني ملوك العراق، ونوري باشا السعيد، أشهر رئيس حكومة في تاريخ العراق، مرورا بالملكة عالية والدة الملك فيصل الثاني، والأيوبي والباجه جي، رئيسي الوزراء في العهد الملكي، والزعيم عبد الكريم قاسم، قائد الانقلاب على الحكم الملكي وأول رئيس حكومة في عهد العراق الجمهوري، والرئيس عبد السلام محمد عارف، ومن ثم الرئيس صدام حسين. ويعد هؤلاء من أشهر زبائنه بالإضافة إلى كبار المثقفين والشعراء والكتاب والسياسيين والقضاة وضباط الجيش العراقي، كون محله يجاور مقهى الأدباء (حسن عجمي)، وقريبا من مقهى الزهاوي والرصافي والبرلمان والبلدية سابقا، وهذه المقاهي كانت مخصصة للمثقفين والسياسيين، ومن بناية وزارة الدفاع القديمة. ويختصر صاحب محل «شربت الحاج زبالة» قائمة زبائنه فيقول «هذا العصير جمع أبناء الطبقات الراقية والاعتيادية، الفقراء والأغنياء، الحكومة والمعارضة، كلهم كانوا يحرصون على زيارة المحل وتذوق العصير قبل التقاط الصور التذكارية قربه».

ويعد محل الحاج زبالة اليوم معلما ومزارا تراثيا يعكس أجمل سنوات شارع الرشيد وتاريخ بغداد، وعندما ندقق في الصور المعلقة فوق جدران المحل لكبار الشخصيات العراقية التي زارت هذا المكان لا نجد أي وجه من وجوه حكام العراق الجدد بعد 2003، ولا يعتبرها صاحب المحل هادي أبو أحمد (55 عاما) مفارقة غريبة، موضحا بقوله لـ«الشرق الأوسط» إن «حكام هذا الزمان لا يجازفون بدخول شارع الرشيد أو التوقف ولو للحظات هنا، أو في أي مكان عام مع مواكب حماياتهم الجرارة، وأتوقع أنهم يخافون من استهدافهم، كما أن إغلاق مداخل الشوارع بالحواجز الخرسانية يحول دون ذلك»، مستعينا بما كان يذكره والده «كان كبار الشخصيات أمثال الملك غازي أو السعيد أو الباجه جي أو الأيوبي وحتى قاسم، يأتون إلى المحل بلا أي حماية أو مرافقين، بل مع أصدقائهم، ليتذوقوا (الشربت) ويتجاذبوا أطراف الحديث مع والدي وبقية الزبائن ويمضون سعداء».

وعن مميزات ما يقدمه من عصير وأسباب تسمية محله بهذا الاسم (زبالة)، أوضح قائلا «حافظ عصيرنا على نكهته الأصلية، بلا منكهات أو إضافات، منذ نشأته وحتى اليوم، كما أنه المحل الوحيد هنا، إذ إن كل الفروع التي افتتحت في مناطق بغداد والمحافظات في ما بعد حاولت تقليد الاسم ذاته، ونحن ساعون لأجل مقاضاتهم». وعن مصدر الزبيب المستخدم في العصير، قال «إنه يقتصر على الزبيب الذي يأتي من كردستان العراق (الشمال)، خاصة من منطقة خوشناو في أربيل وبعض مناطق السليمانية. وهو الأصلح لصناعة شربت الزبيب، وقد أدخلنا المكننة في تصنيع العصائر بعد أن كانت جميع مراحل تصنيع العصير تتم بشكل يدوي. وزاد «تردنا طلبات كثيرة من الزبائن لأجل حمل كميات منه إلى أهلهم وأصدقائهم في الخارج، فنعمد إلى طرق خاصة لتجميده وحفظه كي يكون صالحا لدى نقله إلى أماكن بعيدة».

أما عن غرابة الاسم، فيقول «سمي المحل، نسبة إلى صاحبه الحاج زبالة، الذي سمته والدته بهذا الاسم دفعا للحسد، إذ إن من عادة العراقيين القدامى، خاصة في المناطق الشعبية والريفية، اختيار أسماء غريبة وقبيحة لمواليدهم لأجل حمايتهم من أعين الآخرين خاصة إذا كان يموت للعائلة كل مولود جديد».

وكما تعرضت غالبية مناطق بغداد التراثية، خاصة شارع الرشيد، للإهمال والخراب، فإن هذا المحل، كما يشير صاحبه «شاخ، وبحاجة ماسة للتأهيل والصيانة مع مراعاة شكله التراثي ومعماره العريق».

ويتحدث بأسف كاظم السيد، صاحب محل مجاور لـ«شربت الحاج زبالة» عن أحوال شارع الرشيد، قائلا «لقد تغير شارع الرشيد كثيرا، بعد أن أهمل ونخرت السنون أعمدته المميزة، وحفرت آثار الإطلاقات النارية وشظايا التفجيرات التي طالته أيام العنف الطائفي في أعوام 2007 - 2009 في جسده كثيرا وشوهته، كما أن معظم مداخله أغلقت وعزل عن بقية شوارع بغداد، وقلت حركة الناس فيه».

مما يذكر أن شارع الرشيد شهد في ما مضى الكثير من الأحداث والمظاهرات على مدى تاريخ العراق، لكنها لم تجبر أصحاب المحل على إغلاقه، ويقول صاحب محل «شربت الحاج زبالة» في «أيام المظاهرات في السابق كانت مبيعات (الشربت) تزداد، وأحيانا كان والدي يقدم العصير مجانا للمشاركين تضامنا معهم وتشجيعا لهم، ولعل أشهر المظاهرات هي التي شهدها الشارع في فترة حكم عبد الكريم قاسم، فلم يكن يمضي شهر دون خروج مظاهرة أو مظاهرتين، وكان محل زبالة يستعد لهكذا مناسبات ويعد كميات كبيرة من العصير حيث كان يتم الإعلان عن موعد المظاهرة، وكان يظل مفتوحا حتى الصباح، وهو يستقبل في الأوقات المتأخرة المسافرين وجمهور السينمات التي كانت تعج بها منطقة الميدان القريبة من المكان».