التونسيون يتسابقون على شراء الأضاحي بأسعار تضاهي مدخول الإنسان العادي

رغم الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد

التونسيون يقبلون على أسواق الأضاحي ويتفحصونها جيدا قبل الشراء («الشرق الأوسط»)
TT

لم يتبق سوى ساعات معدودات على عيد الأضحى المبارك، ومشهد تسابق المواطنين التونسيين في الأسواق - رغم الظروف الاقتصادية الصعبة - على شراء الأضاحي، من أهم الممارسات اليومية خلال الفترة الأخيرة.

في أسواق تونس المتخصصة في بيع المواشي يقف المشتري ليظفر بالأضحية الأفضل من ذاك الفلاح الذي اعتاد الشراء منه في كل عام. لكن، الحال تغير هذه الأيام، وبدأ أناس آخرون يزاحمون الفلاحين ومربي الماشية في رزقهم. بل لقد أصبح المجال مفتوحا أمام أكثر من طرف، من ضمنهم أصحاب رؤوس الأموال الذين يستثمرون أموالهم في تجارة يغنمون منها كثيرا.

اللافت في هذه الظاهرة، أنها ما عادت أيضا مقتصرة على الأغنياء، إذ إن موظفي الحكومة والمدرسين والأطباء وغيرهم من أصحاب المداخيل باتوا مشاركين بقوة في هذه التجارة الموسمية، التي تدر أرباحا محترمة إذا ما مرت المسائل بسلام، ولم تستورد الحكومة كثيرا من رؤوس الماشية (الخراف خصوصا) لتعديل الأسعار والقضاء على مظاهر الاحتكار والمضاربة في الأسعار.

إلى ذلك، مع نهاية فترة فصل الربيع تبدأ عادة عملية اقتناص الفرص وشراء الخراف التي تتراوح أعمارها بين 6 أشهر وسنة، وهي الفترة ذاتها التي يجري خلالها فطامها، وعادة ما تبدأ عمليات «تخزين» الخراف وتسمينها قبل أشهر قليلة من حلول العيد.

تجارة بيع الخراف الموجهة للعيد، كما سبقت الإشارة، أغرت كثيرين من أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية. بل، حسب بعض القصص المرددة، يتقدم بعض أفراد العائلات في الحصول على قروض بنكية، موظفين الأموال المستقرضة في شراء الأضاحي، ومن ثم عزلها عن الأعين قبل النزول بها إلى الأسواق وبيعها بضعفي أسعارها في بعض الحالات.

من جهتهم، أطلق التونسيون على هذا السوق اسم «بورصة العلّوش (الخروف)» نظرا لتقلبها المستمر صعودا وهبوطا، وإمكانية الربح والخسارة في كل خطوة تخطوها في عالم مغرٍ، لكنه صعب بسبب وقوعه في قبضة أيادٍ خفية.

فترة بيع الخراف تبدأ في نهاية فصل الربيع، أخذا في عين الاعتبار إلى أن معظم النعاج تلد في موسم الخريف السابق. وفي العادة تكون أسعار الخراف معقولة فلا تتجاوز حدود المائتي دينار تونسي في أقصى الحالات (أي نحو 140 دولارا أميركيا) للخروف الواحد. وبدورهم، يتخلص معظم الفلاحين من خرافهم للتخفيف من تكلفة الاحتفاظ بها طوال الفترة الصيفية التي تقل فيها المراعي وتغيب الأمطار كليا، مما يجعل التكلفة مرتفعة للغاية لا يقدر عليها سوى كبار الفلاحين وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة.

وفي هذا الشأن، قال أحمد البوجبلي، وهو فلاح من الشمال التونسي، لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه: «مع حلول فصل الصيف تصل قيمة الخروف إلى 140 دينارا تونسيا أو أقل (قرابة 100 دولار أميركي)»، مبديا حسرته عن ضياع فرصة مهمة لتحقيق بعض الأرباح التي تعينه على تقديم عناية إضافية لبقية القطيع، مضيفا: «... لا شك أن المضاربين سيبيعون تلك الخراف بأسعار مضاعفة».

في غضون ذلك، يغتنم هؤلاء فرص بيع المواشي بأسعار مغرية، وغالبا ما يحتفظون بها لمدة تقارب الثلاثة أشهر، ومن ثم ينزلون بعدها إلى الأسواق، حين تزداد الأسعار إلى الضعفين. ثم مع قدوم عيد الأضحى تشهد الأسعار ارتفاعا نادرا، وبناء عليه تكون الأرباح مضاعفة.

متابعو «بورصة العلوش» خلال الأسابيع القليلة الماضية ترقبوا أن تتراوح الأسعار هذا الموسم ما بين 350 دينارا تونسيا (نحو 250 دولارا) و800 دينار (نحو 560 دولارا) محققة رقما قياسيا في الأسعار لأول مرة في أسواق الأضاحي التونسية.

وتعد هذه الأسعار خيالية وفوق طاقة معظم العائلات التونسية، حتى إن سعر الأضحية تجاوز بكثير الراتب الشهري لعدد كبير من التونسيين. ذلك أن معدل الأجور يتراوح بين 300 دينار و500 دينار تونسي، خاصة في القطاع الخاص، ومع احتساب بقية متطلبات الأضحية من خضار وغلال وغيرهما، فإن كثيرين سيعانون من العجز بميزان مدخولهم.

وفي المقابل، وفي محاولة للالتفاف على هذا الوضع يفطن بعض العائلات التونسية إلى أساليب قد تكون مفيدة، منها شراء الأضحية في اللحظات الأخيرة من يوم العيد، مما قد يعني الظفر بأضاحٍ زهيدة السعر.

على صعيد آخر، يبدي المضاربون خشية كبيرة من القرارات الحكومية باستيراد آلاف الأضاحي وتوريد اللحوم، كما يتذمرون من منافسة الأسواق التجارية التي تضع بعض الحوافز أمام مقتني الأضاحي، من بينها توفير العلف مجانا للأضحية وتمكين المشتري من آلات الذبح وغيرها. ويسمي التونسيون المتاجرين في الأضاحي «القشارة»، في إشارة إلى الحصول على أرباح من دون الغوص إلى عمق الممارسة الفعلية للتجارة، مثل مربي الماشية وبقية الممارسين للأنشطة الفلاحية وغيرها.

في مطلق الأحوال، يبدي التونسيون هذه الأيام تعجبهم من الارتفاع الصاروخي في أسعار الأضاحي، ولا يجدون تفسيرات شافية حول هذه الظاهرة التي كانت بدايتها خجولة نوعا ما خلال أعياد فترة ما قبل الثورة. وحتى بعد إعلان الحكومة عن نيتها استيراد قرابة 100 ألف خروف من رومانيا بأسعار لا تتجاوز في أقصى الحالات 350 دينارا تونسيا (250 دولارا)، لم تسجل هذه المحاولة أي تأثيرات كبيرة على بورصة الأضاحي. وفي هذا الصدد، سرب البعض إشاعات مغرضة حول شبهة رفض تقبّل خراف رومانيا في باب التضحية في بلاد المسلمين للاشتباه في طريقة العناية بها وتركيبة علفها.

وبدورها، اضطرت دوائر حكومية إلى تقديم تفسيرات وتوضيحات حول مصدر خراف رومانيا وأساليب تغذيتها وشهاداتها الصحية، في محاولة لتطويق الإشاعة التي تقول مصادر من وزارة الفلاحة التونسية إن وراءها جماعة «القشارة»، في خطوة للاستئثار بـ«كعكة» عيد الأضحى من دون مشكلات أو منافسة.