الباعة الجوالون في تونس.. ركض وراء لقمة العيش

يتفننون في الوصول إلى المشتري حتى إلى بيته

عربة بائع جوال في درب ريفي بتونس («الشرق الأوسط»)
TT

عربات خشبية متواضعة تجرها البغال والحمير، أو أخرى اكتفت بدفعها سواعد مالكيها النحيلة، تجوب الأسواق والأحياء والمناطق العمرانية في تونس دون كلل أو ملل، صيفا وشتاء، حتى في أيام الدوام الرسمي والعطل. أما ما يميزها عن غيرها فهو ما تحتضنه جنباتها من بضاعة وسلع ينادي صاحبها عليها محاولا جذب المارة والسكان.

إنهم الباعة المتجولون، أو الجوالون.

ربما اعتاد المواطنون وجودهم... وباتوا بالنسبة لهم من المعالم الرئيسية لمناطق بعينها، إلا أن أعداد هؤلاء الباعة، الكثر أصلا في تونس، تزايدت في السنوات الأخيرة، ربما نتيجة لتراجع الوضع الاقتصادي.

بين صيحات تملأ أرجاء الأحياء السكنية، منها تنادي «حوت فريشك».. أي سمك طازج، أو «فلفل حار، حلو، طماطم، بطاطا»، وأخرى تعلن عن أحدث قطع الملابس «التي وصلت حديثا (!)»، وقفت خيرة الهداجي (50 سنة) أمام أحد المنازل حاملة في يدها كيسا أسود كبيرا، ما لبثت أن أخرجت ما فيه، بينما هي تتحدث إلى صاحبة الدار وتريها اختيارات متنوعة من الألبسة.

وبعدما باعت خيرة «ما فيه نصيب»، التقينا بها، وفي حديث عابر لـ«الشرق الأوسط» قالت: «أنا أعمل في بيع الملابس منذ أكثر من 10 سنوات. كنت في الماضي أعمل مع شقيقتي التي تملك سيارة، أما الآن فإنني أعمل بمفردي وأستخدم المواصلات العامة والنقل الريفي للوصول إلى الزبائن».

خيرة تدخل، عادة، إلى منازل زبائنها من دون أي مشقة، وتلقى الترحاب وحسن الضيافة، موضحة: «يفتحون لي بيوتهم وأتناول معهم الطعام في أوقات الأكل. لقد أصبحت معروفة لديهم من كثرة ترددي عليهم ولقاءاتي بهم... إنني أعرف أسرارهم وهم يعرفون الكثير عني، فنحن النساء لا نستطيع إخفاء أي شيء». على حد تعبيرها.

أحد أسباب توثيق العلاقات بين خيرة وزبائنها، بيعها بالدفع المؤجل، وهنا شرحت «أن البيع بالدفع المؤجل يسهل عملية البيع، وهو من الأسباب التي توثق العلاقات بين البائع والمشتري، فالمشتري يشعر أنه مدين لك، ولا يستطيع أن يوصد الأبواب في وجهك».

ومن جهة ثانية، نفت خيرة تعرضها لإنكار أحد من السكان الديون التي لها بذمته، مؤكدة: «لم ينكر أحد ديونه، وأنا بدوري لا أبيع لامرأة واحدة ثيابا بأكثر من 50 دينارا، وقبل ذلك يجب علي التأكد من ثقتها ومن قدرتها على السداد».

وحقا، لا تنقطع خيرة عن العمل صيفا أو شتاء، إذ يمكن رؤيتها في الطريق متجهة إلى إحدى القرى النائية ودرجة الحرارة قد تجاوزت الـ45 درجة، وقد تراها أيضا تحت شرفة محل أو حتى شاحنة متوقفة والمطر يهطل مدرارا في أشهر الشتاء. وعلى هذا قالت معلقة: «لدي 4 أولاد أعولهم بعدما أدخل أبوهم إلى السجن، وفي العام الماضي زوجت ابني الأكبر، وحرصت على جمع ما لدي عند الناس بشكل طارئ حتى تمكنت من دفع تكاليف الزواج».

حليمة هي الأخرى من الباعة المتجولين، لكن لديها مكانا معلوما للناس، وأيضا سبب الإقبال الكبير على سلعها هو بيعها بالدفع المؤجل، الذي قد يستغرق أحيانا السنتين والثلاثة. وفي لقاء معها قالت: «أنا أبيع المفروشات جميعها، وحتى الأثاث المنزلي بمختلف أصنافه، من غرفة النوم وحتى قاعة الجلوس، مرورا بالمطبخ وما يحتاجه».

وتابعت: «... في الحقيقة تعلمت من التجول أشياء كثيرة، أولها أن الناس في حاجة للتقسيط، ذلك أن رواتبهم ومداخيلهم لا تغطي جميع ما يحتاجونه، ولذا يجدون راحة في التقسيط. ثانيا: تحتاج هذه التجارة إلى الذكاء». وهنا ضربت حليمة مثلا على ذلك قائلة: «لا تظن هذه السلع لي... كلا أنا أيضا أستخدم الدفع المؤجل، وأبيع كل هذا بالأسلوب نفسه... وآخذ تكاليف الوساطة بين المنتج والزبون».

ولكي تضمن حقها، تأخذ من جميع الأطراف ضمانات مكتوبة من قبل حرفاء (زبائن)، قالت شارحة: «عندما يكون المبلغ 50 دينارا لا يكون هناك أي مجال لأخذ تعهدات من الزبون، فعليه دفع المبلغ كاملا. أما إذا كان المبلغ أكثر من ذلك، مثلا 200 دينار، فيجري الاتفاق على تقسيط المبلغ باعتماد نظام الصكوك، حيث كل صك لا يقل عن 50 دينارا توقع كلها في البلدية. وكلما دفع الزبون قسطا أسلمه صكا من الصكوك الموقعة لدي».

أثناء لقاءاتنا لم يقبل تصوير بضاعته سوى «العم» محمد المسعودي، الذي تمكن من خلال تجارته المتواضعة والبسيطة جدا من تعليم أولاده الستة... منهم قاضية عاطلة عن العمل.

قال لنا المسعودي (66 سنة) راويا قصته مع التجارة: «أزاول هذا العمل منذ 10 سنوات تقريبا... وجميع الملابس التي أبيعها جديدة. أنا لا أبيع المستعمل أبدا». وأردف: «أحد أولادي شريك في شاحنة، إلا أنني أتكفل بـ90 في المائة من مصاريف الأسرة، وأشعر بالسعادة لأنني نجحت في تعليم أولادي... منهم من درس إلى الابتدائي ومنهم من تخرج في الجامعة».

وعن فكرة العربة المتنقلة التي يحمل فوقها الثياب قال: «... كنت أفكر في ذلك منذ عدة سنوات، إلا أن قلة المال حالت دون إنجاز الفكرة، لكنني تمكنت فيما بعد من اقتراض بعض المال، وباشرت المشروع الصغير... والحمد لله على كل حال».

ورغم تقدمه في السن، ومشاكله الصحية، فإن «العم» محمد المسعودي يقطع يوميا ما بين 30 و40 ميلا مشيا على الأقدام وهو يدفع عربته بحمولتها من أجل لقمة العيش له ولأسرته. وفي النهاية، ولأن معظم بضاعة المسعودي جوارب وملابس داخلية، فهو لا يرى أن مواسم الأعياد فرصة لزيادة المبيعات. وكانت هذه فرصته للشكوى؛ إذ قال مختتما كلامه: «لو كان لدي مكان لوضع الملابس لخففت عن كاهلي كل هذا التعب. أنا أعمل في مكان وأسكن في مكان آخر، وأضطر لدفع العربة أميالا طويلة».