إبراهيم الدسوقي.. أحد أقدم «طالعي النخل» في مصر

يمارس المهنة منذ 40 سنة.. و«لن يبعده عنها سوى الموت»

«العم» إبراهيم.. متسلقا نخلة («الشرق الأوسط»)
TT

ربما كانت المصادفة وراء امتهان «العم» إبراهيم الدسوقي المهنة التي خطّت مسيرة حياته، إلا أن حبه وتعلقه بشجرة النخيل منذ الصغر، كانا، حتما، وراء تآخيه معها وربط مسيرة حياته بها.

«العم» إبراهيم هو أحد أقدم «طالعي» (أو بالأصح متسلقي) النخل في محافظة الشرقية، بشمال شرقي مصر، فهو يمارس هذه المهنة منذ 40 سنة، ويطلبه أصحاب النخيل بالاسم لجني ثمار البلح من نخيلهم. أما أجمل ما في ذاكرة هذا الرجل فهو محبّته الحانية للنخلة التي يقول إنها توحي له بالسمو والعلو. وعلى أنغام أغنية المطربة الراحلة وردة الجزائرية «يا نخلتين في العلالي.. يا بلحهم دوا. يا نخلتين على نخلتين طرحوا في ليالي الهوا»، أدمن مهنة تسلق النخيل لقطف البلح، وهي مهمة صعبة محفوفة بالمخاطر، لا يقدر عليها سوى أشخاص لا بد أن يكون «الواحد منهم قلبه جامد (أي: شجاعا)»، على حد تعبيره.

في حديث خاص مع «الشرق الأوسط»، روى «العم» إبراهيم حكايته مع النخيل، فقال: «بدأت تسلق النخيل في سن الـ16. وفي يوم من الأيام، صادف أن الرجل الذي اعتاد جني البلح من النخلات الثلاث في بيتنا، تعرض لوعكة صحية شديدة، فكان لزاما علينا أن نتولى أمر البلح قبل أن يتلف بعوامل الجو وحرارة الشمس. ويومها استأذنت والدي آنذاك بأن يسمح لي بتسلق النخيل لقطف البلح. وبالفعل، وافق لكثرة إلحاحي، وصعدت. وما زلت إلى يومنا هذا أتذكر ضربات قلبي كيف كانت تدق بشدة لدى تسلقي النخلة الأولى، ولكن مع تسلق النخلتين الثانية والثالثة شعرت بأن قلبي قوي ولا أخاف، على الرغم من خطورة تسلق النخيل».

ثم تابع سرده: «كان صعود النخيل في البداية هواية بالنسبة لي، وقد تعلمتها من العم محمد عامر - رحمه الله - في قريتنا، وكان رجلا مسنا ظل يتسلق النخيل حتى سن كبيرة تجاوزت الخامسة والستين. لكن مرضه وشيخوخته حالا لاحقا بينه وبين هذه المهنة، وتوفي عام 1984 وهو عمره 71 سنة. كنت أشاهد هذا الرجل المسن هو يتسلق النخيل من دون وسائل مساعدة من أحبال ومطلاع.. وكان يقوم بإنزال البلح لأهالي القرية من دون أن يتقاضى أجرا».

واستطرد «العم» إبراهيم مشيرا إلى أن الأهالي «كانوا يقدّرون عمل العم محمد، فيقومون بإعطائه جزءا من البلح الذي يقطفه، ومع ذلك كان يرفض كثيرا أن يأخذ البلح مقابل تسلق النخيل، بحجة أنه يفعل ذلك محبة لهم».

ثم قال، وبدا عليه إعجابه الشديد به: «لقد تأثرت به كثيرا قبل وفاته، وتعلمت منه الكثير».

يتعرض متسلقو النخيل لكثير من المخاطر، كما قال لنا «العم» إبراهيم، ولذا فإنه حرص على تطوير أدوات تسلق النخيل ليتفادى السقوط على الأرض، وذكر في هذا الصدد ما حدث مع أحد الأشخاص «وكان قد تسلق نخلة، وإذ به يرى فجأة ثعبانا صغيرا مختبئا في أحد جذوعها، فاضطرب الرجل لرؤيته وفقد توازنه، فسقط على ظهره مرتطما بالأرض من على ارتفاع 10 أمتار.. في هذا اليوم أصيب الرجل بكسور شديدة في ظهره والحبل الشوكي أدت إلى وفاته».

وأضاف: «لهذا السبب أهتم بتأمين نفسي جيدا عند تسلق النخيل، إذ استخدم المطلاع (وهو حبل مبطّن بالقماش عرضه نحو 20 سم) ألفّه حول النخلة وجسمي من ناحية الوسط ويتيح لي بالتالي احتضان النخلة، بينما تكون قدماي مرتكزتين على جذعها. وفي حال ظهور (لا قدر الله) حشرات أو ثعابين سامة، أبادر على الفور بضربها بالفأس التي أحملها معي في أحد جيوب المطلاع لقطع أغصان النخلة فتسقط ميتة على الأرض.. أما في حال كان الموقف أكثر تعقيدا، فإنني أنزل على الفور من النخلة من خلال الضغط بقدمي على جذعها، وأرتد بظهري للخلف بما يتيح لي تحريك المطلاع لأسفل الشجرة في كل مرة بنحو متر تقريبا، وهكذا حتى تلامس قدماي الأرض».

وهنا لفت إلى أن هذا لا يحدث إلا فيما ندر، «فقلّما توجد هذه الحشرات والعقارب والثعابين في القرى.. وهي موجودة أكثر في النخيل الموجود في البيئات الرملية والصحراوية».

من جهة أخرى، يبدي «العم» إبراهيم أسفه على أنه لا يوجد أحد في أسرته، سواء الأحياء أو من توفوا، لديه القدرة على تسلق النخيل، ثم قال: «في بداية تعرفي بتسلق النخل وقطف البلح، لم أكن آخذ من جني نخيل الأسرة والأقارب والجيران بالقرية مقابلا، لكن بعدما عرف عني الجميع في القرى المجاورة، وباتوا يطلبونني بالاسم، صرت أتقاضى منهم على قطف البلح في المرة الواحدة للنخلة الواحدة 7 جنيهات. ويستغرق قطف بلح النخلة الواحدة قرابة نصف ساعة، أو 45 دقيقة على الأكثر». وأردف: «تتطلب النخلة القطاف نحو 8 مرات في الموسم الواحد، وذلك ابتداء من أواخر أغسطس (آب) وحتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، وقبل موسم قطف البلح بنحو 4 أشهر يبدأ موسم تلقيح نخيل البلح بطريقة التسلق ذاتها».

ولدى سؤلنا له عن تاريخ مهنة «طالع النخل» وعدد النخيل الموجود في مصر وأشهر المناطق امتلاء بالنخيل، حسب علمه، أصدر تنهيدة عميقة وأجابنا: «عرفت من الحاج محمد عامر، رحمه الله، أن الفراعنة هم أول من تسلقوا النخيل لقطف البلح، وقد تعلمتها بعدهم شعوب أخرى في الصين وشبه الجزيرة العربية، أما عدد النخيل في مصر فهو لن يقل بأي حال من الأحوال عن 10 أو 12 مليون نخلة تتنوع بين البلح الزغلول الأحمر والسماني الأصفر والحياني (أي الرطب بنوعيه الأسمر والأصفر)، وتعتبر محافظة الوادي الجديد أكثر المناطق كثافة بنخيل البلح، وتأتي بعدها منطقة جنوب الجيزة ومحافظة الشرقية ومنطقة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وخاصة في قرية كوم النور التي يعد نخيلها من أجود أنواع النخيل في مصر».

وفي الختام، سألناه عن كلمة أخيرة يود قولها، فقال: «طلوع النخل بقدر ما هو شاق ومليء بالصعاب، ممتع ولن أتركه إلا بوفاتي».