ساحة جامع الفنا المراكشي تفقد «الخبزاوي» أحد أشهر فكاهييها

أضحك الزوار على مدى سنوات.. ورحل في هدوء وترك ركاما من الذكريات

تميز عبد الحكيم الخبزاوي بسمرته المراكشية ونظارته السوداء وطريقته الخاصة في اللباس «الشرق الأوسط»
TT

لا تكتمل زيارة مراكش دون زيارة «ساحة جامع الفنا» التي قد لا تكتمل هي الأخرى، من دون التوقف عند حلقة عبد الحكيم الخبزاوي، للاستمتاع بلحظات من الفرجة والضحك. لكن، بعد سنوات طويلة من إدخال البهجة إلى نفوس مرتادي وزوار واحدة من أشهر الساحات داخل وخارج المغرب، غيب الموت الخبزاوي، الذي تحول، في السنوات الأخيرة، إلى أحد عناوين صناعة الفرجة في «جامع الفنا»، التي استهوت، على مدى تاريخها، الشعراء والكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمرورهم منها.

ساحة ظل لاسمها وقع خاص في نفوس هواة السفر والسياحة، قبل أن تنفتح على حاضر ملتبس دفع عددا من الغيورين والمهتمين إلى التحذير من التفريط في رمزيتها وصيتها التاريخي والإنساني، في خضم التحولات المتسارعة التي تشهدها المدينة الحمراء، مما أجبر الساحة على أن تغير جلدها، وهو تغير يكاد يحولها، اليوم، إلى مطعم شعبي كبير، مفتوح في الهواء الطلق، مع أن اليونيسكو صنفت فضاءها الثقافي «تحفة من التراث الشفوي واللامادي للإنسانية».

تميز الخبزاوي، بسمرته المراكشية ونظارته السوداء وطريقته الخاصة في اللباس، أما لقب «كيلي جولي»، الذي اشتهر به، فهو عنوان أغنية ظل يؤديها يوميا، التي هي مجرد تطويع دارج لجملة فرنسية تقول: «كم هي جميلة»، يتغنى فيها صاحبها بجمال المغربيات، حسب المناطق والمدن. وهي أغنية «ضاحكة» لخصت لأعمال كثيرة أثارت إعجاب عشاق حلقة الخبزاوي، سواء لخفة دمها أو لطريقة إلقائها، وهو ما كان يدفع رواد حلقته إلى الانخراط في موجة ضحك تنسيهم هم الدنيا، خلال ساعة المتعة والفرجة التي هم فيها، مؤكدة لهم أنهم في مدينة البهجة، فعلا، حيث تتحول أغنية «اعلاش يا غزالي» الشهيرة، التي رددها كبار المطربين المغاربة، إلى أغنية «اعلاش يا حماري»، على لسان الخبزاوي، الذي كان يحرص على أن يرحل برواد حلقته، في إحدى أغانيه، عبر ربوع المغرب، متنقلا بهم من مدينة إلى أخرى، راصدا أحوال الناس والأمكنة بروح مرحة وكلمات ساخرة متفكهة.

قبل وفاته بأسابيع، التقت «الشرق الأوسط» الخبزاوي في حوار لا أحد كان يعرف أنه سيكون أحد آخر الحوارات التي تجرى معه.

كان الحوار مفتوحا على أسئلة كثيرة تتناول الماضي والحاضر والمستقبل؛ الشيء الذي كان يتطلب عدة جلسات ولقاءات متكررة. في مرحلة أولى، توقف الجزءان الأول والثاني، من الحوار، عند الماضي والمستقبل، في انتظار جزء ثالث يرصد أسئلة المستقبل: مستقبل الساحة وآمال الخبزاوي، وغيره من صناع الفرجة، في غد أفضل. لكن كتب للخبزاوي أن يرحل قبل أن يكتمل الحوار الذي أراد له أن ينجز على مهل.

حين هبط خبر رحيل الخبزاوي، كان حريا العودة إلى أجوبته في الحوار الذي لم ينشر. وهو رحيل يذكر بوجه آخر من وجوه الفرجة بالساحة غيبه الموت أشهرا قبل رحيل الخبزاوي. وهو إبراهيم بلحسن آيت حمو، وهو طبيب شعبي يعرض أطقم أسنان مستعملة للبيع، وحرفته ظلت تستهوي السياح ويلتقطون صورا تذكارية معه ومع بضاعته.

ولعل من الصدف العجيبة أن يشترك الخبزاوي وبلحسن في قضائهما أكثر من نصف قرن بالساحة، وأن يجمعهما الركن نفسه من الساحة، الذي لا يبعد عن مقهى «فرنسا» الشهيرة سوى بضع خطوات.

خلال الحوار معه استعاد الخبزاوي بداياته في ساحة جامع الفنا، حيث ترعرع وتعلم أصول «الحلقة والتنشيط» (المساحة التي يقدم فيها عرضه اليومي) على يد عدد من «رواد الحلقة» أبرزهم المعلم «عزوز»، قبل أن يتوقف عند العلاقة التي ربطته مع عدد من حكواتيي ومنشطي الساحة، خاصة عمر «ميخي»، الذي رحل هو الآخر قبل اثنتي عشرة سنة. كما تحسر على ما آلت إليه الساحة بعد أن غطت جلسات الأكل وعربات عصير البرتقال على حلقات الحكي والفرجة، وبعد أن دارت الأيام على من تبقى من صناع الفرجة وتوارى كبار «الحلايقية» (من حلقة) ممن لم يحظوا بدعم واهتمام المسؤولين وأصحاب القرار، محليا ووطنيا.

استعان الخبزاوي، الذي ولد بحي القصبة بمراكش، قبل سبعين سنة، على مدى مسيرته الفنية الطويلة، التي جاوزت نصف قرن، فقط بروح مرحة وصوت مبحوح، ودف ظل يقرعه بخفة ونشاط المراكشيين، راقصا على إيقاع الدقة المراكشية. أما حلقته، فظلت الوحيدة، تقريبا، التي لم تفقد بريقها، بعد أن ظلت تجذب الرواد، صامدة تقاوم «تسونامي» الأكل والمطاعم الصغيرة، الذي هجم على الساحة، في السنوات الأخيرة، حتى حولها إلى حديقة من برتقال ودخان.

مع رحيل الخبزاوي، الذي باغت رحيله الهادئ، تسقط ورقة أخرى من شجرة الفكاهة والفرجة بساحة جامع الفنا، لتلتحق بعدد لا يكاد يحصى من رموز الحكي والتنشيط في مراكش، غيبها الموت في أوقات متفرقة سابقة، مثل مولاي عبد السلام «الصاروخ»، وعمر «مخي»، والبشير «طبيب الحشرات»، والشرقاوي «مول الحمام» (صاحب الحمام) ومولاي أحمد «حمقة»، وكبور «مول البسكيليت» (صاحب الدراجة) وغيرهم من رموز الفرجة، الذين صنعوا مجد الساحة، قبل أن يقف الجميع، مرة أخرى، على حقيقة صادمة تؤكد أن كل أولئك «الأبطال» الذين صنعوا مجد وشهرة الساحة، التي تمثل القلب النابض للسياحة في مراكش، هم في نهاية المطاف أبطال من دون مجد ومن دون بطولة، بعد أن حصد أغلبهم التهميش واللامبالاة والنسيان.

يرحل عبد الحكيم الخبزاوي، الرجل والفكاهي المتميز، فيطرح عشاق الساحة السؤال المؤرق: ماذا سيملأ مكان الحلقة التي ملأها «كيلي جولي» غناء ورقصا، على مدى عقود: عربة تبيع العطشى عصير البرتقال، أم جلسة أكل تنفث الدخان، وتبيع المشويات ورؤوس الخراف المبخرة.