«محطة مصر».. صرة حكايات المسافرين ودليل الزائر لقلب الإسكندرية

شيدها مهندس إيطالي قبل 100 سنة وأصبحت «جمهورية للباعة الجائلين»

مبنى المحطة من الخارج حيث تبدو عليه عبقرية المهندس الإيطالي الذي صممه على طراز معماري فريد («الشرق الأوسط»)
TT

يطلق عليها السكندريون اسم «محطة مصر»، نظرا لأنها تستقبل قطارات تأتي من كل مكان في أرض الكنانة، وما بين اللهفة والترقب، ولوعة الوداع، تحتضن المحطة أحلام المسافرين بلقاء الأحبة، وعلى أرصفتها تتجدد فرحة الأطفال بالقطارات الملونة بألوان علم مصر.

على أحد الأرصفة، تغادر سيلفانا باردو القطار الإسباني الفخم آتية من القاهرة.. حائرة تائهة بين الوجوه والعيون المتعلقة بعقارب الساعات الأثرية في بهو المحطة الفسيح، وحاملة حقيبتين؛ إحداهما صغيرة تحتضنها بشدة تملؤها الصور الفوتوغرافية المحملة بالذكريات، وتخرج إلى ميدان الشهداء المقابل للمحطة وسط موجة من البشر يحملون أمتعتهم مهرولين نحو طاقة النور المنفتحة على قلب المدينة.

صيحات الباعة وتساؤلات المسافرين الحائرين تحاصرها.. تتجاوز ذلك شاخصة ببصرها إلى مبنى المحطة الأثري.. تلتقط صورا فوتوغرافية لمعالمه، ثم تمضي باحثة عن شارع النبي دانيال المؤدي لمحطة الرمل حيث فندق «سيسيل» التاريخي، الذي اعتاد أفراد عائلتها السكندرية - الإيطالية النزول فيه.

تحدثت سيلفانا لـ«الشرق الأوسط» عن انطباعاتها حول محطة مصر، وقالت: «كنت أتوق لزيارة الإسكندرية، وطوال رحلتي من القاهرة شغلني شكل محطة السكة الحديد الرئيسية التي ستستقبلني؛ فهل هي تعبر حقا عن العبق اليوناني في المدينة، أم ستعكس التأثير الأوروبي؟! لكنني وجدت طرازا (نيوإسلاميا) رائعا، وهو يليق تماما بالمدينة العريقة. وفي المقابل، أحزنني جدا ما وجدته من إهمال لهذه القيمة التاريخية.. لم أكن أتوقع أن يحدث هذا لمدينة الإسكندرية التي حدثني عنها أفراد عائلتي، وكانوا يتحاكون عن عالميتها ونظافتها وروعة ناسها».

أول قطار وصل إلى الإسكندرية عام 1853، حين كانت مصر ثاني دول العالم بعد بريطانيا في تشغيل السكك الحديدية. ولقد بوشر في تشييد المحطة عام 1911، ولصعوبة استيراد المواد المطلوبة للبناء أثناء الحرب العالمية الأولى تعطل البناء حتى عام 1927.

المحطة تحمل لمسات المعماري الإيطالي أنطونيو لاشياك، التي لا تخطئها العين. وكانت المحطة والشوارع المحيطة بها مبلطة بالحجر الصلد، ويقال إنها كانت تضاهي باريس في جمالها.

على باب المحطة اليوم ينادي «العم» بركة، «شيال المحطة»، بصوته الأجش محاولا لفت نظر الركاب المهرولين لمساعدتهم في حمل الحقائب الثقيلة، عله يحصل على مبلغ يعينه على مصاريف أسرته المكونة من 5 أفراد.

بركة يقول: «الرزق يحب الخفية.. بس الواحد ماعادش قادر يجري ويتنطط ورا الركاب. السن بقى له أحكام.. بقالي 50 سنة أهو في الشغلانة ديه ياما عدى علينا باشاوات وهوانم، لكن احنا زي ما احنا؛ الزمن كأنه مبيعديش علينا». ويضيف: «احنا بنسترزقوا في الأعياد علشان ناس كتير بتسافر لأهاليها.. ناس رايحة وناس جاية، ساعتها الشغل بيكون كتير والواحد ضهره بيتقسم، وبعد أي موسم أعياد تلاقيني 3 أيام راقد في البيت من التعب».

ويتوقف «العم» بركة عن الكلام ملاحقا ركاب القطار الآتي من الصعيد، وهو ينادي: «أيوه يا عمدة أي خدمة».

خارج المحطة، وبغض النظر عن العشوائية، فإن إحساسا بألفة المكان يحتوي المسافر.. إنه يغوص في قلب المدينة ويعايش حياة أهلها البسطاء ويسير في شوارعها التي تمتلئ بالمارة ليلا ونهارا ولا تهدأ، فمحيط «محطة مصر» أكثر الأماكن ازدحاما في الإسكندرية، ولا يشبه أي مكان آخر بها.. ومنها يمكنك الولوج إلى أي مكان في مدينة الإسكندر المقدوني العظيم.

من ميدان الشهداء يستطيع الزائر التوجه إلى أحياء محرم بك والأزاريطة أو العطارين واللبان ثم المنشية، أو القباري والورديان والعجمي، ومحطة الرمل والمنشية وكوم الدكة وطريق الحرية.

كذلك سيجد أمامه وسائل المواصلات: الترام والميني باص والأوتوبيسات المكيفة والميكروباصات والتاكسي والقطار.. بالطبع.

كل ما على الزائر فعله اختيار الوجهة التي يريد.. فقرب المحطة يوجد السنترال المركزي في المدينة بمبناه الأنيق، وتوجد أقدم نقطة إطفاء في الإسكندرية وهي تحتضن عربات إطفاء أثرية، كذلك هناك المجلس المحلي، والمسرح الروماني الوحيد من نوعه في مصر. وبإمكان الشغوف بالكتب شراء الكتب النادرة من باعة الكتب في شارع النبي دانيال، وإذا احتاج الزائر إلى تصريف العملة، فيمكنه التوجه إلى شارع صلاح سالم الذي يعج بالبنوك وشركات الصرافة. كذلك، فإن المحطة على بعد خطوات قليلة من استاد الإسكندرية ومتحف الفنون الجميلة ومكتبة البلدية ودور السينما في محطة الرمل..

كل هذا على بعد خطوات.. بمجرد عبور ميدان الشهداء الفسيح الذي تدور في فلكه السيارات، وكان بالأمس القريب شاهدا على ثورة الشعب المصري يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011 حيث توجهت إليه الجماهير وحاصرته عربات الأمن المركزي والمدرعات وسيارات الإطفاء.

تتميز منطقة «محطة مصر»، أيضا، بكثرة المطاعم والمقاهي الشعبية البسيطة التي تحمل رائحة الكد والكفاح، وأغلب مرتاديها إما عمال باليومية أو موظفون حكوميون أو متقاعدون على المعاش. ومن أشهر معالم «محطة مصر»، حلواني «العصافيري» الذي اعتاد السكندريون عليه مكانا للالتقاء والانتظار.. ودائما ما يوصي أحدهم من يهمه أمره بشراء هريسة «العصافيري» إذا كان ذاهبا إلى المحطة.

ومن ناحية أخرى، «يفتك» الباعة بكل أرصفة المحطة حتى يمكن أن نطلق عليها «جمهورية الباعة الجائلين» الذين يتراصون على كل شبر منها. عند هؤلاء ما لا يمكن أن يجده المرء في أي مكان آخر وبأقل الأسعار سواء من الملابس أو الأجهزة الكهربائية أو الأحذية.. إلخ. كذلك توجد سوق من أهم أسواق الإسكندرية هي «سوق باب عمر باشا»، المعروف قديما بـ«سوق النصارى»، وهو يبدأ من محطة مصر وينتهي عند باب سدرة بحي كرموز. سكان هذه المنطقة نسيج يمثل الوحدة الوطنية؛ فغالبية العقارات يملكها المسيحيون ويقطن فيها المسلمون.. يعرفها الناظر إليها من الصلبان الذهبية التي رسمت عليها، بينما تتجلى آيات القرآن الكريم عبر النوافذ. هنا من يلعبون كرة القدم أو يقفون على «الإِمَّة» باللهجة الإسكندراني، وتعني «ناصية الطريق». وتقول راوية عبد الله: «أنا أقطن بشارع (إيزيس) وكل جيراني وسكان البيت مسيحيون، لكن كل الود والحب بيننا. وقد زاد اهتمام كل أفراد البيت بي وبأسرتي بعد وفاة زوجي، حتى عندما تعثرت ماليا، كان أصحاب العقار أول من وقفوا بجانبي حتى تجاوزت محنتي، كلنا هنا في المنطقة أكثر من الأهل».