«أخميم».. مدينة مصرية تلتف في «الحرير» وتكتسب به شهرة عالمية

أقمشة ومفروشات ومنسوجات عكفت عليها الأنوال اليدوية منذ زمن الفراعنة

لشهرة منتجاتها على المستوى العالمي أطلق عليها الغرب «مانشستر الشرق» مقارنة بأكبر مدن إنجلترا التي تشتهر بمنسوجاتها عالية الجودة («الشرق الأوسط»)
TT

على أرض مدينة «أخميم» المصرية الواقعة على ضفاف شاطئ النيل موطن الحضارات، غزلت الأنوال القديمة بأيد ماهرة أجمل خيوط الحرير وأكثرها جمالا، فكانت رداء للملوك والأمراء على مر العصور، فسطر التاريخ ولا يزال حتى اليوم قصصا عن أقدم مدينة عرفها التاريخ في صناعة النسيج.. ففي هذه المدينة الواقعة بمحافظة سوهاج (500 كيلومتر جنوب القاهرة)، وكما تكشف رموز وكتابات الحضارة الفرعونية، صنع المصري القديم خيوط الحرير والمنسوجات اليدوية التي تمتاز بالجودة، ولا تزال «أخميم» حتى اليوم تتمسك ببعدها القديم حيث تنتشر محال بيع المنسوجات والأقمشة في أرجاء المدينة، ولشهرة منتجاتها على المستوى العالمي أطلق عليها الغرب «مانشستر الشرق» مقارنة بأكبر مدن إنجلترا التي تشتهر بمنسوجاتها عالية الجودة.

يقول صلاح عبد اللطيف (50 عاما)، وهو أحد القائمين على مشروع تطوير وتسويق حرير مدينة أخميم حرصا على هذه الحرفة القديمة من الاندثار: «بداية مدينتنا كانت ما قبل عصر الأسرات بـ119 عاما، حيث شدت الأنوال اليدوية في كل بيوت مدينة (ميمم) الاسم القديم لمدينة أخميم، وتعني إله الخصوبة عند المصريين القدماء، وبعدها أضيفت إليها كلمة (أخ) نسبة إلى أخي الإلهة (ميم) لتصبح (أخميم)».

ويتابع: «كانت الأقمشة التي ينتجها أهالي أخميم فقط للكهنة وملوك الفراعنة الذين أخضعوا كل الفنون والصناعات لخدمتهم، وكانت أقمشة تحمل نقوشا وزخارف ورسوما تتناسب مع التعاليم الدينية الفرعونية، أي أنها أصبحت حرفة مقدسة لارتباطها بالكهنة، ولم يسمح وقتها بعمل رسومات للإنسان أو الحيوان على أقمشة أخميم، وظل الوضع كذلك حتى عصر الملك (توت عنخ آمون)، حيث بدأت أخميم في إنتاج الأقمشة الحريرية المخططة والملونة باللونين الأحمر والأزرق عام 1500 ووضع في طرفها زخارف من الأشكال الهندسية وزهرة اللوتس والنباتات البردية والنجوم».

ويبين عبد اللطيف أن «النسيج (الأخميمي) تحول على مر الأيام من حرفة إلى فن مميز لدى غازليه، ففي الصباح الباكر تستيقظ المدينة ويتجه العاملون في النسج إلى الأنوال ليمضوا ساعات النهار بين حركة الخيط المكوكية وهي تقفز يمينا ويسارا في قلب النول، ومع غروب الشمس يقومون بجمع حصيلة اليوم من الغازلين لبيعها إلى التجار الذين يعرضونها بدورهم في البازارات السياحية في الأقصر وأسوان والقاهرة، حيث يتهافت عليها الأجانب والسياح ويعتبرونها قطعا فنية، فكل غرزة صنعت يدويا ولا مجال للميكنة في غزل الحرير الأخميمي ذي الصيت العالمي». ويستطرد عبد اللطيف: «ذاع صيت صناعة المنسوجات الحريرية في أخميم في عصر البطالمة، وكان خام الحرير يستورد من الهند والصين قبل إنتاجه محليا في مصر في القرن السادس ميلاديا، وقد توفر لمدينة أخميم من مواد الصباغة ما ساعدها على تفوقها في المنسوجات، حيث كان ينمو بمنطقة وادي الملوك قرب دير السبع في جبال شرق سوهاج نبات يسمى (الملوك) له عصارة حمراء داكنة تستعمل في الصباغة خاصة الحرير القرمزي الذي اقتصر ارتداؤه على الملوك والأباطرة في ذلك العصر».

ويوضح أن الحرير كان يعتبر ثالث المواد الخام أهمية لصناعة النسيج في مصر الإسلامية بعد الكتان والصوف، إلا أن نسج الحرير قد تعرض لنوع من التقييد بسبب تحريم لبس الحرير على الرجال، غير أن صناعته كانت مزدهرة في فجر الإسلام، حيث عثر على قميص حريري باسم الخليفة عبد الملك بن مروان، ويشير عبد اللطيف إلى أن هناك منسوجات حريرية عثر عليها في أخميم موجودة الآن بالمتحف البريطاني ويشهد لها بالجمال والروعة.

ويضيف: «قامت محافظة سوهاج حديثا ببناء قرية النساجين الجديدة منذ عدة أعوام، كما أنشأت بالتعاون مع كلية الزراعة بجامعة سوهاج معملا كبيرا لتربية دودة القز لإنتاج خيوط الحرير الطبيعي وزراعة الآلاف من أشجار التوت لتغذية دودة القز، وكل النتائج تؤكد نجاح التجربة لإحياء التراث اليدوي من الاندثار، بالإضافة إلى إقامة معارض للحرير الأخميمي داخل المدينة وخارجها، بما يعمل على الترويج لصناعة المنسوجات».

ويختم عبد اللطيف حديثه بالإشارة إلى أن الميزة والقيمة الحقيقية لهذه الأقمشة الأخميمية تكمن في أن صناعتها اليدوية منحتها نعومة وجودة عالية ليس لها نظير، حيث يتم التصدير إلى كثير من الدول العربية، وتحظى المنتجات الحريرية من أقمشة ومفروشات ومنسوجات بإقبال بسبب الصنعة ذات التوليفة اليدوية غير المعروفة في أي بلد آخر بالعالم.