النحت على الخشب في المغرب.. ازدهار من بعد اندثار

أنعشها عبد الكريم مسلكليام في منطقة الأطلس المتوسط على صهوات جياد وثيران إسبانية

عبد الكريم يعمل في ورشته الصغيرة في مدينة أزرو المغربية ( تصوير: أحمد العلوي المراني)
TT

بعدما تراجع رواج ديكورات المنحوتات الخشبية بشكل كبير، عاد المغاربة إلى استعمالها بكثرة، خاصة في المطاعم والمقاهي الراقية، كذلك حدث إقبال متزايد عليها من قبل السيّاح عليها، وجاء هذا الانتعاش بعد فترة كساد غير قصيرة.

الواقع أن فن النحت على الخشب يعد من الفنون الإبداعية الراقية والأصيلة التي اشتهرت بها عدة مدن مغربية، وغالبا ما استلهمت خصائصه الفنية والجمالية من فنون وحضارات موغلة في القدم. ودأب المغاربة على الاهتمام بهذا الفن، فاستعملوا المنحوتات الخشبية ديكورات راقية في بيوتهم، كما انتشرت في عدد من القصور والفنادق الفخمة والمطاعم والبازارات. ثم إن شعبية هذه المنحوتات تزداد مع مناسبات الحفلات، ويقبل السياح الأجانب على الخصوص على شراء الأحجام الصغيرة منها لأخذها معهم كتذكارات لزياراتهم للمغرب.

مدن منطقة الأطلس المتوسط، في وسط المغرب، اشتهرت بصفة خاصة بفن النحت على الخشب، كيف لا وهذه المنطقة غنية بشجر الأرز، المرغوب جدا للنحت، وكذلك نوع آخر من الخشب يسمى «تويي أبربير»، وهو وخشب الأرز يتميزان برائحتهما القوية، التي يقال إنها تقضي على بعض الحشرات الدقيقة خاصة في المنسوجات الصوفية. وهناك نوع ثالث من الخشب هو خشب شجر الصفصاف، ولكن صنع منه فقط الآلات الموسيقية الوترية، وهذا النوع يتحاشاه النحات دائما لصلابته التي لا يتحملها المنشار.

كذلك يشير نحّاتو الأخشاب إلى نحتهم خشب «الكركاع» و«الصنوبر» و«السدر»، غير أنهم يجمعون على أن خشب الأرز هو أفخر أنواع الأخشاب وبالتالي أغلاها. ويبلغ سعر المتر المكعب من خشب الأرز 15 ألف درهم (قرابة 1900 دولار أميركي)، ويقل عنه سعر خشب «تويي أبربير». وعادة، بعد أن يشتري النحات الخشب، يضع تصميما للشكل الذي يرغب في نحته على الورق بقلم حبر جافّ. ومن ثم يجهز قطعة الخشب التي تتلاءم مع التصميم وينقله بواسطة الكربون وقلم حبر جاف، أو يرسم التصميم مباشرة على قطعة الخشب. ولاحقا يحدد الأجزاء المراد حفرها إما بشكل بارز أو غائر، ويعمد إلى تثبيت قطعة الخشب على طاولة إذا كان الأمر يتطلب العمل بواسطة الأزميل والمطرقة الخشبية والمنشار، أما إذا كان الحفر بأدوات أخرى فإنه لا يحتاج إلى طاولة. وبعد الانتهاء من عملية الحفر يصقل القطعة وينعّم ملمسها بمبرد خاص فيما يسمى عملية «التنعيم». وفي المرحلة الأخيرة يعمد إلى طلاء قطعة الديكور بدهانات التلميع، أو دهانات أخرى تحافظ عليه.

عبد الكريم مسلكليام، يعد حاليا أحد أمهر النحاتين وأشهرهم في منطقة الأطلس المتوسط. ولقد امتهن عبد الكريم نحت الخشب قبل 28 سنة، ولقد روى لـ«الشرق الأوسط» حكايته مع المهنة، أو بالأصح الحرفة، عندما التقيناه، فقال «إن علاقتي بالحرفة بدأت كهواية؟ إذ كانت عندي هواية الرسم على الورق في البداية، وفيما بعد أتيحت لي فرصة نحت الخشب بعدما صقلت موهبتي».

وأضاف «إنني أمارس هذه الحرفة منذ السبعينات إلى الآن في منطقة أزرو لأنني ابن منطقة الأطلس المتوسط. ولقد تعلمت الحرفة بالذات في مدينة أزرو التي اشتهرت قديما بصناعة النحت على الخشب، وبدأت العمل مع معلمي ياسين محمد، الذي تعلمت منه الحرفة خلال فترة سنتين. وبعدما تعلمتها انتقلت إلى بيتي للعمل منفردا، وبدأت بالنحت على أول قطعة صنعتها، وهي على شكل (غزالة) نحتها من خشب يسمى (الأكاجو) يستورد من الغابون، ويومذاك استغرقت عملية النحت وقتا طويلا، ذلك أن القطعة انكسرت خلال محاولتين، لكنني واصلت العمل بروح التحدّي إلى أن وفقني الله في صنعها».

وتابع عبد الكريم فقال إنه انتقل بعد ذلك إلى «محل صغير المساحة، وفي هذا المحل استطعت أن ألقن كثيرين أصول الحرفة، ومعظمهم يعملون حاليا بمفردهم». وأردف شارحا مسيرته مع النحت «البدايات كانت مع النحت على قطع الخشب الصغيرة، ولكن فيما بعد جاءت فكرة النحت على أحجام كبيرة، وكان السبب في ذلك سائح إسباني يدعى خوليو، اعتاد أن يشتري مني بعض منتجاتي، بل ويدفع مبلغا كبيرا، لأنه يعمل في تجارة قطع الديكور».

ولأن خوليو كان معجبا بالفعل بأعمال عبد الكريم وكان متيقنا من أنه فنان حقيقي يستحق أن يشتهر على نطاق واسع، فإنه اقترح عليه زيارة إسبانيا، إلا أن عبد الكريم ظل متردّدا إزاء خطوة كهذه. وبعدها اقترح خوليو عليه، لفرط إعجابه بموهبته، نحت قطع كبيرة الحجم. وحقا اختار أن ينحت حصانا بما يقارب الحجم الحقيقي من الخشب. ثم اقترح عليه خوليو أن ينحت حصانا من سلاسة الجياد البربرية قافزا. ونفّذ عبد الكريم فكرة الحصان القافز بعدما استغرقه النحت قرابة ثلاثة أسابيع. ومباشرة اشترى خوليو ذلك الحصان الخشبي بسعر لم يكن يتوقعه عبد الكريم.. تشجيعا له. ثم طلب منه أن يعمل على نحت ثور إسباني بما يقارب حجمه الحقيقي. ومجددا أنجز عبد الكريم المطلوب، وأعجب خوليو بالعمل عندما شاهده لدى زيارته وأفراد عائلته أزرو خصيصا لمشاهدة ذلك النحت. وهنا قال لنا عبد الكريم أن أكبر قطعة ديكور نفّذها كانت عبارة عن حصان يبلغ طوله المترين واستغرقت منه عملية النحت مدة تسعة أشهر.

ولكن ما المشكلات التي تعترض النحاتين على الخشب في منطقة أزرو؟

قال لنا عبد الكريم «إن أبرز المشكلات التي تعترض سبيل حرفيي المنطقة هي في نقص المرافق الخاصة التي تتيح لهم ممارسة حرفتهم، وبعدها قلة توافر المواد الأولوية، وكذلك أدوات العمل التي لا بد من جلبها من الخارج». وبشأن المواد الأولية استطرد موضحا «إذا أردنا أن نعمل على خشب الأرز فسعره مرتفع عن خشب العرعار، وحتى العرعار لا يوجد في المنطقة فنضطر إلى شرائه من أقاليم أخرى ولكن هنا السعر يكون مرتفعا». وحول تصريف الإنتاج، قال «... نحن نعرض منتجاتنا في عدة معارض، وهي التي تستفيد منها وتمنحنا مجالا لترويج منتجاتنا، خاصة في أسواق مراكش وأغادير وفاس. إننا نركّز على المنتوج المحلي لمنطقتي إفران وازرو الذي يكون عليه إقبال كبير من طرف السياح».

وفي الختام، كان واضحا من لقاء عبد الكريم أن الديكورات الخشبية المنحوتة، عادت إلى الازدهار على صهوات جياد وثيران هذه المرة، لكن المشكلة العويصة ما زالت تكمن في إيجاد الخشب الصالح للنحت في مهنة كادت أن تندثر قبل أن تزدهر من جديد.