مزارعون مصريون يمتهنون «الحطابة» ليوم واحد أسبوعيا

سوء أوضاعهم دفعهم للاشتغال في أعمال أخرى من أجل «لقمة العيش»

فلاحون مصريون يمتهنون «الحطابة» ويبيعون منتجاتهم في الأسواق المحلية («الشرق الأوسط»)
TT

انحنت ظهورهم لسنوات عدة أمضوها في ضرب الأرض بفؤوسهم، أملا أن تعطيهم من خيرها، لكنها ربما بخلت عليهم، مما اضطرهم للبحث عن مهنة أخرى تساعدهم على غلاء المعيشة.

إنهم مزارعون مصريون، دفعتهم الحاجة إلى امتهان «الحطابة»، أو جمع الحطب، كسلاح إضافي في مواجهة الفقر، غير أنها مهنة ليوم واحد فقط قبل أن يعودوا إلى الزراعة لستة أيام.

«العم» سيد محمد مزارع بسيط، أو حطاب، يخفي همومه خلف «قدوم» صغير (فأس صغيرة الحجم) يستخدمه لتشذيب الأخشاب، التي جمعها من حقله على مدار أسبوع، قبل أن يبيعها في سوق محلية بإحدى محافظات صعيد مصر.

مع أول خيط لضوء نهار يوم الخميس، موعد السوق في مركز أبو قرقاص، بمحافظة المنيا، يجلس «العم» سيد (53 سنة)، بالقرب من بائعي الخضر والفواكه، يعرض ما جمعته يداه طوال أسبوع من قطع الأشجار الجافة، مهذبا إياها ليصنع منها عددا من القطع الخشبية، يستخدمها المزارعون أوتادا يربطون بها ماشيتهم، أو رؤوس فؤوس تستخدم في زراعة الأرض.

في لقاء مع «الشرق الأوسط» قال سيد: «الأرض ما عادت كما كانت في الماضي، إننا نصرف عليها اليوم أكثر مما تعطينا، وأصبحت لدينا أسر كبيرة وأطفال وأحفاد، وما تخرجه الأرض من محصول موسمي لا يكفينا جميعا»، وأضاف بعدما باع حطبه: «إنني أرسل أولادي إلى العمل في القاهرة بعدما تزوجوا.. لم يعد أحد يرغب في أن يكون مزارعا أو أن يمضي بقية حياته مزارعا، بينما غدا أصدقاؤه وأقاربه معلمين وأساتذة ومهندسين».

وتابع «العم» سيد بغضب واضح: «ترانا نضطر إلى افتراش الأرض والعمل حطابين وبائعين، لأن الزراعة لم تعد تدر علينا دخلا يكفي احتياجاتنا»، مكملا: «أبحث عن جذوع الأشجار القديمة أو التي لم تعد تثمر وأقطعها إلى أجزاء، وأبدأ بتحويلها أشكالا مختلفة تصلح لاستخدامات كثيرة، وبذا أحصل على بعض الأموال من وراء بيعها في السوق أسبوعيا».

واستطرد الخمسيني المكافح شاكيا رقة الحال: «نحن مجرد (مزارعين)، لا نملك شهادات جامعية أو تعليمية تجعلنا ننخرط في أعمال نجني منها دخلا كبيرا، كل ما نملكه مجهودنا وعرقنا، نملأ به الأرض بانتظار ما تدخره لنا من عوائد»، ولكن ما هي إلا لحظات عابرة حتى ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه الذي انعكست آثار الشمس عليه، ليقول: «الرزق بيد الله، وما علينا إلا السعي في الحقول وهنا في السوق».

في الواقع، رغم وجود نقابة للفلاحين في مصر، فإن «العم» سيد لا يعلم عنها شيئا، عندما يشير إلى معاناة المزارعين من تجاهل وإهمال الحكومة للزراعة، وتحملهم أعباء زراعة الأراضي وغلاء مستلزماتها.

من ناحية ثانية، وإن كان «العم» سيد يصف أحواله بأنها «صعبة» يزيدها صعوبة واقع كونه يعيل والدته المسنة وأسرة كبيرة مكونة من أربعة أبناء وعائلاتهم، ثلاثة منهم يسافرون للعمل في القاهرة وواحد فقط يساعده في زراعة الأرض، فهو إنسان وفي جدا لأرضه، حيث شدد أمامنا على أنه لا يمكن أن يفكر في ترك زراعة الأرض رغم قسوتها عليه، كما يرفض البناء عليها أو تجريفها وبيع تربتها كسماد أو استخدامها في صنع الطوب.

على مقربة من «العم» سيد، جلس محمد أشرف، وهو مزارع جاء إلى السوق ليبيع الأدوات نفسها، وبعدما تابع مجريات الكلام قال لنا: «لقد فكرت كثيرا في بيع أرضي، وخاصة أن أولادي لا يحبون العمل في الزراعة، ثم إنها ما عادت تستحق ما نبذله من عناء من أجلها، لكن تركها شيء صعب... إنها قطعة مني، ولذا لا أستطيع أن أتركها مهما علا السعر المدفوع لي فيها... حتى وإن كانت تركب علينا الخسارة بدلا من أن تدر الربح. إنها الشيء الوحيد الذي سنتركه لأولادنا عندما نرحل... إنها الشيء الوحيد الذي نملكه».

بكلماته البسيطة هذه، لا يطلب أشرف من الحكومة إلا القليل، ويشير بيده إلى السوق التي يجلس في أحد بقاعها قائلا: «لا نريد أكثر من أن ينتهي ارتفاع الأسعار وأن توفر لنا الحكومة مستلزمات الزراعة بأسعار معقولة... يؤلمنا أن تستغل الشركات محاصيلنا وتأخذها بأسعار زهيدة، ولا نملك إلا أن نقبل ما تقدمه لنا مقابل محاصيل نعمل عليها طوال الموسم».

ولكن، بانتظار تحسن الوضع الاقتصادي في مصر وانتهاء غلاء الأسعار، يظل مستقبل سيد وأشرف ومئات من زملائهما وأسرهم مرهونا بمحاصيل يزرعونها وأخشاب يقطعونها، وهم يجلسون على رصيف حاملين آلات ومعدات خشبية تستخدم في أدوات زراعية عدة، آملين أن تفتح لهم الأرض أبوابها وتغدق عليهم بعض المال ليؤمنوا مستقبل أولادهم.