«الحدائق العجيبة» في الرباط.. أشجارها وأزهارها زفة ألوان ومتعة بصر

بدايتها تعود إلى مهندس فرنسي مارس هوايته الغريبة حتى العقد الثامن

جانب من «الحدائق العجيبة» (تصوير: منير أمحميدات)
TT

لم يكن ذلك المهندس الزراعي الفرنسي الذي زار المغرب وعمره 22 سنة يدري أن اسمه سيقترن بواحدة من أغرب الحدائق في المغرب وأكثرها تفردا، لذلك استحقت أن يطلق عليها اسم «الحدائق العجيبة».

في ضواحي مدينة سلا، في قرية «بوقنادل» التي تبعد 20 كيلومترا عن الرباط، توجد هذه الحدائق. يروي سكان «بوقنادل» الذين يعرفون تاريخ «الحدائق العجيبة» أن بدايتها تعود إلى زيارة المهندس الزراعي «مارسيل فرنسوا» للبلدة الصغيرة، بعد أن غادر فرنسا عقب الحرب العالمية الثانية، عازما على الاستقرار في المغرب، وسكن في «بوقنادل» وقرر تشييد حديقة توجد بها نباتات من مختلف أنحاء العالم.

ما إن تدخل «الحدائق العجيبة» حتى تتناهى إليك أصوات الطيور وحفيف الأغصان وخرير المياه، كل ذلك يجعلك تستغني عن أصوات غير طبيعية، سواء صوت مذياع أو تلفزيون أو موسيقى تنبعث من حاسوب.

في هذه الحدائق خضرة مخضرة، وأشجار وشجيرات ونباتات مصطفة في تنسيق بديع بأشكال وألوان مختلفة، تجعلها فعلا «زفة ألوان» ومتعة بصر.

رافقنا في زيارتنا للحدائق الشرقي مرزاق تلميذ مارسيل فرنسوا الذي روى لنا قصة الحدائق العجيبة قائلا: «سأعود بكم إلى ما قبل 62 سنة عندما جاء مارسيل فرنسوا إلى المغرب وهو في العشرينات من عمره، حيث درس مناخ المغرب وبدأ يهتم بالنباتات المائية وتكاثرها، قبل ذلك شيد فرنسوا بيتين من زجاج في فرنسا بغرض إنتاج النباتات المائية، لكن نظرا لعدم ملاءمة مناخ فرنسا البارد للنباتات المائية، التي تعيش في درجة حرارة ما بين 18 حتى 22 درجة، اضطر فرنسوا إلى بناء بيوت زجاجية، وشرع بإنتاج نباتات أخرى مائية لبيعها، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية التي خلفت عدة خسائر، من بينها تحطيم البيوت الزجاجية في فرنسا، فاضطر فرنسوا إلى البحث عن بلد مناخه ملائم وتكون فيه حرارة الشمس طوال السنة، ولا يحتاج إلى بيوت زجاجية، من هنا جاءت فكرة الانتقال إلى المغرب الذي سبق أن درس مناخه، وأعجب به، وقرر أن يجلب له النباتات النادرة.

جاء مارسيل فرنسوا إلى المغرب عام 1950 وعمره آنذاك 50 سنة، واشترى أرضا مساحتها 4.5 هكتار في «بوقنادل» وشرع في حفر البرك المائية، وغرس الكثير من النباتات. جلب مارسيل فرنسوا للحدائق العجيبة طيورا وزواحف وأشجارا نادرة تقدر أنواعها بنحو ألف نوع من مختلف أنحاء العالم. كما جلب 40 نوعا من النباتات النادرة من جنوب أستراليا. كان فرنسوا يزرع 500 شتلة يوميا بمساعدة فريق عمل مغربي يتكون من 40 شخصا.

من أغرب النباتات التي توجد في الحدائق العجيبة، شجيرة موجودة أمام البيت الذي كان يقيم فيه مارسيل فرنسوا، وهي نبتة يطلق عليها اسم «ميموزا بوديكا» وتعني «السيدة الخجولة»، وهي نبتة من أميركا اللاتينية تجسد ذكاء النباتات؛ إذ عندما يقترب منها الإنسان أو حتى الحيوان تنكمش خجلا.

يشرح الشرقي مرزاق: «النباتات المائية فيها مجموعات عائمة وشبه عائمة، وأخرى سطحية، وهي المجموعات التي كان يهتم بها مارسيل فرنسوا، ثم راح يبيعها لأن الأرض في ملكيته، وأصبح سكان سلا والرباط والقنيطرة يسمعون بحديقة النباتات المائية. وهكذا راحت بعض العائلات تزورها في نهاية كل أسبوع». تابع مرزاق قائلا: «تدخلت السلطات المحلية آنذاك لفتحها أمام الجمهور، مقابل ثمن رمزي، وتجول فرنسوا في عدة دول بالخارج لجلب المزيد من النباتات، وكان كلما سافر يجلب معه صورا لتلك النباتات يحاول تجسيد تلك الصورة كما هي موجودة في البلد الذي جلبت منه».

استمر فرنسوا في بيع النباتات المائية حتى الثمانينات، ثم اقترح على السلطات المغربية أن يشرف على الحدائق العجيبة مقابل راتب شهري تدفعه السلطات المغربية وتؤول ملكية الحدائق إلى الحكومة المغربية، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى عام 1985، حيث عاد مارسيل فرنسوا إلى فرنسا لأسباب صحية، وكان قد بلغ آنذاك من العمر 85 سنة، تولت بعدها وزارة الداخلية المغربية الإشراف على تلك الحدائق، ونظرا لعدم الاهتمام بها كما كان يفترض، تدهورت الحديقة.

وفي أواخر التسعينات زارت الأميرة لالة حسناء، شقيقة العاهل المغربي الملك محمد السادس، ورئيسة مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، الحدائق العجيبة، ووجدت أنها تدهورت كثيرا، وتقرر أن تتولى المؤسسة إعادة هيكلتها، لذلك أغلقت الحدائق لمدة أربع سنوات في الفترة من عام 2001 وحتى 2005، وشملت عملية الترميم والإصلاح منزل مارسيل فرنسوا الذي كان على وشك الانهيار.

حاليا أصبح منزل مارسيل فرنسوا متحفا يضم الصور التي التقطها وبعض حاجياته الشخصية، منها العصا التي كان يتوكأ عليها، وبعض الأدوية التي كان يستعملها، ومقالات كتبت عنه أو كتبها.

جميع الصور تشهد على مراحل تطور هذه الحدائق، لأن فرنسوا كان مولعا بالصور الفوتوغرافية، حيث كان كلما يزور دولة يجلب معه صور نباتات ويغرسها في الحدائق العجيبة، التي اعتبرتها منظمة اليونيسكو عام 2005 تراثا إنسانيا؛ نظرا لما تحتويه من حيوانات منقرضة وطيور نادرة، مثل اللحام الوردي، وتوروج من آسيا، وسلاحف وببغاوات نادرة، وأشجار عجيبة من مختلف بلدان العالم. وتضم الحدائق العجيبة إحدى عشرة حديقة، هي «الحدائق الأندلسية» و«الحدائق اليابانية»، وتوجد بها نباتات سطحية تنمو فوق سطح المياه، و«الحديقة الصينية» التي تتميز بالجسر الخشبي فوقها، و«حدائق الكونغو» و«حدائق السافانا» التي تتوفر على شجيرات قصيرة، وحدائق «البيرو والبرازيل والمكسيك» و«الحدائق الآسيوية».

تحتوي الحدائق العجيبة على برك مائية توجد بها أسماك، تحيط بها بيوت من القصب، وتربط بينها قناطر، وهناك مشاتل وأحواض، ومسكن للزواحف ومنابت ومتاحف. زائر هذه الحدائق يحتاج إلى أكثر من يوم للتجول بين نباتاتها وبركها، واكتشاف أسرارها؛ إذ هي فعلا حدائق أسرار وعجائب.