فسقية القيروان: تاريخ حضاري وواقع فلكلوري

كانت لفترة تاريخية مصدرا للمياه في مدينة كانت عطشى

تقدمت على الفسقية مدن كانت في يوم من الأيام قفارا وفي أحسن الأحوال بلدات خاوية على عروشها («الشرق الأوسط»)
TT

القيروان من المدن التاريخية التي أنصفها مؤسسوها، وظلمها التاريخ المعاصر منذ ما يزيد على 100 سنة، فهذه المدينة التي ضمت الكثير من المعالم الحضارية البارزة في تاريخ العرب والمسلمين تحولت منذ الاحتلال الفرنسي لتونس(1881) وحتى اليوم لمجرد متحف مهددة محتوياته في بيئة غير ملائمة من جميع النواحي.

فإلى جانب جامعها العريق (50 للهجرة) جامع عقبة بن نافع، ومقام الصحابي، أبوزمعة البلوي الذي يعرف في تونس باسم السيد الصحابي، أو باللهجة التونسي (سيد الصحبي) ومقام الإمام سحنون، ومقابرها الشهيرة، مثل مقبرة قريش، ومقبرة أولاد فرحان، هناك فسقية القيروان التي بناها أبو إبراهيم أحمد بن الأغلب عام 248 للهجرة - 862 ميلادية واستغرق بناؤها عامين، وهي تحفة هندسية قمة في الروعة إذ إنها مثلت لفترة تاريخية طويلة مصدرا مهما للمياه في مدينة كانت عطشى.

الفسقية مسجلة في قائمة التراث العالمي، وهي مكونة من حوضين أحدهما صغير وتسع لأكثر من 3 آلاف متر مكعب من المياه، ويبلغ قطر حوضها 34 مترا وتستند على 17 دعامة داخلية و26 دعامة خارجية. والآخر كبير ويتصل بالحوض الصغير عن طريق فتحة تسمى السرح ويبلغ قطره 127.7 متر وعمقه 4.8 متر ويحتوي على 64 دعامة داخلية و118 دعامة خارجية. وهناك صهريج مسقوف له أقباء طولية تخزن فيه المياه التي كانت تتخذ للشرب، وتبلغ حمولة الصهريج نحو ألف متر مكعب، وتفوق سعة جميع براك الماء في الفسقية الـ57 ألف متر مكعب، وكانت مواجل القيروان تتزود بالماء منه.

كما اتخذ في فترات سابقة كمكان للترفيه كما هو اليوم ولكن من خلال إنزال قوارب فيه حيث لا يوجد بحر في القيروان التي تبعد عن المتوسط أكثر من 70 كيلومترا تزيد أو تنقص قليلا.

وقد أصاب الفسقية ما أصاب القيروان من قلة الاهتمام؛ حيث تكدست المساكن شبه العشوائية على أطرافها، وتشكو بدورها من قلة النظافة وانعدام البنية التحتية لأكثر أحيائها، وتقدمت عليها مدن كانت في يوم من الأيام قفارا وفي أحسن الأحوال بلدات خاوية على عروشها.

واليوم يوجد بالقرب من فسقية القيروان مقهى بسيط ومكان متواضع للعب الأطفال، لكن ما هو مثير فعلا هو تحول الفسقية إلى معلم سياحي يفتقد للكثير من الخدمات، واقتصر الأمر على وجود هودج يحمله جمل وشخص يحمل دفا أو ما يشبه الدف للتنشيط السياحي داخليا كان أو خارجيا حيث يتوافد السياح على القيروان كمنطقة عبور.

وقال العم مصطفى الماجري (80 سنة) الذي يعمل سائسا لجمل يحمل هودجا، يسميه التونسيون (الجحفة) لـ«الشرق الأوسط»، كما ترى لا أبدوا كبيرا لأني لا أبكي على الدنيا ولا يهمني جمع المال، كما إني لا أدخن ولا أتعاطى ما يضر صحتي وتابع: أعمل سائسا لهذا الجمل بهودجه منذ 1966 وفي هذا المكان حول الفسقية، ويذكر العم مصطفى أنه ذهب إلى كندا وإلى فرنسا وغيرها من الدول كشكل من أشكال التعريف بالفلكلور التونسي ذهبنا عن طريق وزارة الثقافة للتعريف بالتراث والفلكلور التونسي لدى الشعوب الأخرى، وتمتعنا فعلا كان ذلك حسب ما أفادنا به العم مصطفى في سنوات 1982 و1983و1992 و1996.

لم يجمع الرجل مالا، ولكنه سعيد لأنه استطاع تربية أبنائه، بعضهم تخرج وبعضهم يعمل في مجالات صناعية. ويطالب الشيخ الذي بلغ عقده الثامن بمنحة نهاية الخدمة التي ينتظرها منذ عدة سنوات.

ويؤكد العم مصطفى على أن الزمن الذهبي للجحفة كان قبل نحو 50 عاما ثم بدأ يذوي شيئا فشيئا، ولكنه لا يزال حيا هناك من يريد الآن أن يغير النمط الذي أصبح سائدا، ويأتينا لنقل العرائس إلى بيت الزوجية في الجحفة كشكل فلكلوري يدخل الفرح والحبور على الحاضرين تماما مثل نقل عروسين في سيارات عتيقة جدا أو عربات تجرها الخيول.

ليس بعض العرائس من يرغبن في الذهاب إلى بيت الزوجية في الجحفة فحسب، بل «هناك سياح أوروبيون يرغبون في ركوب الهودج ولو لفترة قصيرة حول الفسقية والتقاط الصور التذكارية».

هناك الكثير من الجمال الذين تناوب العم مصطفى على استخدامها في عمله «يتجاوز التسعة جمال حتى الآن وهذا الجمل عمره 5 سنوات ولا أجد صعوبة في ترويض الجمال الذي غالبا ما تمرض وتموت».

يبدأ العم مصطفى العمل في الساعة الثامنة والنصف صباحا ويعود السادسة مساء مع فترة راحة تدوم ساعتين عند الظهر ليستقبل الزبائن من داخل تونس وخارجها «يأتون من كل مكان من القيروان ومن الجنوب ومن الساحل ومن الشمال فهنا المقروض القيرواني، والزربية والآثار الإسلامية».

يتكون الهودج من هيكل حديدي يغطى جيدا بالقماش الذي يحمل بصمات التراث وغالبا ما يكون من الصوف والمنسوجات اليدوية، أما الثمن فلا توجد تسعيرة الزبون هو من يحدد قيمة الخدمة التي لا تتجاوز في معظم الأحيان الدينار والدينارين كما يقول.