لبناني يودع حرفة «البوتقة» أو «مهنة الذهب» محتفظا بسرها

مهنة يضرب بها المثل .. ولا رغبة من أولاده في تعلمها

أشكال البوتقة والعدة الخشبية والعم قاسم وبوتقته
TT

«البوتقة».. حرفة سمع بها قلة من الناس حتى تكاد تقتصر معرفتها على «صناع الذهب»، يطلق عليها بعض من يمتهنها بـ«مهنة الذهب»، وحتى اليوم لا يزال يضرب بها المثل في كل أحداث الساحة العربية «ينصهرون في بوتقة واحدة»، أي يتجانسون في فكر واحد.

حرفة نادرة، تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وعلى الرغم من أنها تكافح في سبيل البقاء لكن دون جدوى، في ظل استيراد «البوتقات» من الخارج، والافتقار إلى من يؤرخها كباقي الحرف القديمة، فضلا عن تجاهل جيل الشباب لها في عصر السرعة والعولمة والتكنولوجيا.

في بلدة يحمر الشقيف (جنوب لبنان)، وفي منزل قديم، لا يزال قاسم عليق يحتفظ بعدة هذه الحرفة التي انفرد بها لزمن طويل، عدة تتبعثر بين الغبار في غرفة ضيقة، بينما تحتل «البوتقات» الرفوف الخشبية. أشكال متنوعة وأحجام مختلفة صنعتها يداه اللتان اشتاقتا لتعجن عجين «الغرافت» وتحوله إلى «بوتقة» عبر مكابس خشبية بدائية جدا.

ويقول ابن السبعين عاما لـ«الشرق الأوسط» الذي التقته في منزله: «رغم أنها مجرد كؤوس صغيرة الحجم تشبه الفخار، لكن فعلها كبير ويضرب بها المثل. واليوم يتم الاستيعاض عنها بـ(بواتق حديدية) في منطقتنا، بعد أن انفردت بصناعتها وكنت أوزع منتجاتي منها على معظم الدول العربية نظرا لجودتها ومتانتها مقارنة مع البواتق المستوردة».

وتمتاز هذه الحرفة التقليدية بأنها سهلة وصعبة في آنٍ، وهي تحتاج إلى ذكاء وفن وصبر نظرا لأهميتها في صناعة الذهب، فالأوروبي يعبق الذهب أي يسوده، بينما كمية الذهب المذاب داخل بوتقة العم عليق هي أكبر نسبيا من الكمية التي يذيبها في بوتقته. ومن هنا نسمع عبارة: «ويصهرونه في بوتقة واحدة»، بوتقة يتجانس داخلها الكثير من المعادن منها الذهب والنحاس.

وبالعودة إلى تربة «الدلغان» فقد ذابت حياة العم عليق في «بوتقته» التي علمته البحث في الحقول عن تلك التربة الخاصة بصناعة البوتقة، لأنه ليس أي تربة تصلح لها، فهي تحتاج إلى نار مرتفعة، ولا بد أن تكون تلك التربة صلبة ولا تنصهر تحت النار، بل يجب أن تصهر ما بداخلها، لذا قيل: «ويصهر في بوتقة».

ومع تقدمه في السن غادر العم عليق حرفته بعد وعكة ألمت به، وبعد أن واجه صعوبات في العثور على تربة «الدلغان»، لكنه لم يغادر ذكرياته مع «بوتقات» ذاع صيتها في أرجاء المنطقة العربية، وهو يعتبر آخر من عمل بها في لبنان.

بابتسامة عريضة يصحبك العم عليق في جولة في مشغله الصغير الذي بات يفتقد «عجقة العمل»، حيث تستوقفك عدة العمل ومنها كماشة خشبية، ومكبس، وفرن حراري خاص لصناعة «البوتقة»، ويبادرك بنبرة الواثق من نفسه: «لا أحد يتقن أصولها سواي، هي لغز محير، وأنا نجحت في فك أحجيته».

ليس من السهل صناعة البوتقة التي يصفها صاحبها بالعجيبة، حيث دخل في مناكفات شرسة معها، وقام بعشرات التجارب بهدف تعلمها وإتقانها، فهو لم يترك تربة إلا واستعملها، من التربة الكسلية إلى الفخارية، وفي ذلك يستذكر: «جمعتني بالتربة الكلسية قصص، فقد كنت أقوم بعجنها ورقها في قطعة حديدية دائرية الشكل، ملتصقة بمكبس خشبي ذي رأس دائري، وبعد أن فرحت بتحقيق هدفي وضعت داخلها المياه فإذ بها تتبخر وتنفجر... ضحكت، صعقت لكن لم أفقد الأمل... بل واظبت على المحاولة مرة واثنتين، بل عاما كاملا... إلى أن اكتشفت أن الدلغان هي التربة الرئيسية لحرفة البوتقة، كاشفا أنها تتحمل درجة حرارة تصل إلى 1000 درجة مئوية عكس باقي الأتربة. إذا لـ«البوتقة» طريقة خاصة في التصنيع دقيقة جدا والخطأ فيها ممنوع، فبداية يتم وضع الغرافت في منخل بهدف إزالة الشوائب عنها، بعدها يتم طحن تربة الغرافت في مهباج كبير ويتم إزالة الأوساخ والرمال منها. ومن هنا تبدأ رحلة صناعة البوتقة، فهي تتشكل من تربة الغرافت كمادة أساسية، يضاف إليها الدلغان والمياه وتعجن لمدة نصف ساعة، ثم ترق وتدور قي قوالب خشبية خاصة بها، قبل أن تكبس في مكبس خشبي (خاص بها) ويضغط عليها آنذاك بالإصبع، لتوضع بعدها تحت أشعة الشمس حتى تجف، ليتم إدخالها إلى الفرن الحراري.

وهنا يقول العم قاسم: «الحنكة والدهاء والخبرة كلها تجتمع لتخرج بوتقة جيدة، ترق على شكل كاسات بأحجام مختلفة وبعدها تعرض للشمس لفترة أسبوع ثم تتجه إلى الفرن المكون من خمس طبقات، طبقة فحم وطبقة من البوتقة ونحصل بعدها على البوتقة المتعددة الأشكال والأحجام: المغلقة، والمقصوصة، والمفتوحة وصحون لتذويب الأكسيجين والأحجار الكريمة».

وغالبا يستخدم غطاء مع البوتقة لمنع تطاير العينات منها، كما يستعمل حامل معدني (ملقط) لتجنب تلامس البوتقة الساخنة أثناء إخراجها من الفرن.

منذ عمر السابعة عشرة أتقن العم عليق صناعة البوتقة، حتى جال عبرها أنحاء الدول العربية، مشكلا مقصدا للكثير من معامل الذهب في لبنان والخارج، ودخلت بوتقته في منافسة مع البوتقات الأجنبية، مؤكدا أن البوتقة المحلية أثبتت أنها أمتن وأجود من تلك الإنجليزية والإيطالية، وحتى الحلبية التي دخلت حيز المنافسة. وردا على سؤال يجيب: «كنت أعمل على ضوء السراج أو الشمعة، وغالبا ما كنت أختلي بنفسي لساعات، وكنت أنجز عمل عشرين يوما في 5 أيام، لأبيع القطعة بدولار أو دولارين، وحسب الحجم يرتفع السعر، وهي ستة أحجام» ويختم عليق بأن أكثر ما يؤلمه هو أن أحدا من أولاده لم يقبل تعلمها، لأنها تحتاج إلى دهاء وحنكة وفن وصبر، ليبقى سر هذه الحرفة مجهولا إلا من قبله.