مكتبة عز الدين بجنوب لبنان.. التاريخ والكتاب صديقان والقارئ والتراث خصمان

تحتوي على مخطوطات تعود إلى عام 1883

عز الدين يقرأ داخل مكتبته على ضوء السراج («الشرق الأوسط»)
TT

كانت تشكل ملاذ السهريات الثقافية والأدبية التي عقدت في داخلها، وحيكت فيها الأقاصيص و«الأحجيات» الشعرية.. هي كغيرها من المكتبات العامة في جنوب لبنان خصوصا ولبنان عموما، تعاني من قلة الإقبال والدعم المادي والمعنوي.

إنها مكتبة الشيخ موسى عز الدين في بلدة العباسية (قضاء صور - جنوب لبنان) التي فتح أبوابها ابنه الشيخ علي عز الدين ابن الـ95 عاما في عام 1984، حفظا لذكرى والده الذي كان مسؤول المدرسة الدينية في العباسية، وقد وضع فيها بداية 400 كتاب يملكها شخصيا، وهي تكتنز على 15 مخطوطة، منها مجموعة شحادة غساني 1883 والمؤلفة من ستة دفاتر عتيقة..

مكتبة متواضعة لا تشبه إلا نفسها، تطل على نافذة مخطوطات نادرة، وتروي سيرة حياة، ثقافة، أسواق، عمالقة جبل عامل الكبار من الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، إلى السيد محسن الأمين، إلى المطران جورج حداد، حيث التاريخ والكتاب أصبحا صديقين..

في المكان ذاته ومنذ ما يقارب الـ29 عاما يجلس العم علي عز الدين، يمسك قلمه وورقته يسجل ملاحظاته التي تراوده، وهو يقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «حين أتوقف عن القراءة، تموت روحي، لأن الجلسة في حضرة الكتاب مختلفة، تعلمت الكثير من مكتبتي لأنها رسالة لتحسين المستوى الفكري للفرد، لم أعد أجد الراحة إلا عندما أتأبط الكتاب أقرأه، فكيف إذا كان يروي تاريخا غابرا مفعما برائحة الثقافة الجنوبية القديمة؟».

وأبرز ما يميز هذه المكتبة العامة للمطالعة المجانية هو وجود أقسام متنوعة: المراجع أي الموسوعات، الفلسفة، الدين، العلوم الاجتماعية، اللغة العربية، الفنون الجميلة، إضافة إلى الزراعة والصناعة والصحة والعلوم الأدبية والتاريخية، كما تضم أيضا مخطوطات قديمة بخط أصحابها ودائرة المعارف باللغتين الإنجليزية والفرنسية وخريطة نادرة لفلسطين القديمة.

وردا على سؤال يوضح العم عز الدين أن أي شخص يريد تقديم أطروحة عن أي موضوع كان، يجد الموسوعة الكاملة، فيما تجد نفسك تنتقل وبشكل عفوي من زاوية التاريخ والمخطوطات، إلى زاوية مجلدات الصحف منذ تأسيسها، إلى شرفة الثقافة الشعرية والدينية..

تاريخ يدوّن في طياته حقبة لا يعرف تفاصيلها غير تلك المخطوطات القليلة التي بحوزته، التي استطاع أن يحفظها، ومنها مخطوطة الشاعر محمد حمود، الذي أرّخ لجبل عامل عن طريق الشعر النثري، وتحوي كل تفاصيل تلك الحقبة، منها يوميات وحوارات ولقاءات ثقافية، ومخطوطة تروي تاريخ سياد بلدة الدوير من آل إبراهيم، ومخطوطة عن الزكاة يفوق عمرها الـ120 عاما دوّنها الشيخ كاظم عز الدين، إضافة إلى 8 آلاف كتاب إلى جانب مجلدات كبيرة..

«وحدهم بسطاء الناس يملكون الثقة في أن ما يقومون به سينجح حتما» مقولة يتمسك بها الشيخ علي عز الدين، غير المتعلّم ولكنه مثقف، مرددا وبحسرة مفعمة بالأمل «لا شيء في هذه الحياة يستطيع أن يمنحك السعادة، سوى مكتبة وكتب، تأنس لها روحك، أنا لم ولن أتركها أبدا»، لافتا إلى أنه لم يعد يجد من لديه شغف بالقراءة سائلا: «لماذا نخاصمها؟».

أثناء تنقلك بين أقسام المكتبة، تستوقفك شعارات تشجع على المطالعة تكلل جدران غرفها، فضلا عن أنها تأخذك في رحلة إلى عمق تراث جبل عامل.

وكعادته يجلس عز الدين يشعل سراجه القديم ويبدأ في القراءة، ممسكا بكتاب «سوق المعادن» العائد إلى عام 1883 للشيخ شحادة غساني، الذي أعيد طباعته لأنه مهم جدا، كونه يكسب بعدا رابعا من الكتب، ويرى عز الدين أن هذا الكتاب يحمل خبايا ثقافية واسعة.

على مدى عشرات السنين جمع عز الدين هذه الثروة الأدبية والفكرية القديمة من هنا وهناك «أعرف أن ما أقتنيه كنز كبير لا يضاهيه أي كنز آخر في الحياة»، يوضح وهو يسترجع ذكرياته التي عايشها فترة جمعه لمخطوطاته «أذكر أنني قصدت قرى وبلدات بحثا عن تلك الدفاتر القديمة، وللأسف لا أحد يدرك أهميتها، ومنذ فترة قيل لي إن هناك عددا من المخطوطات من ذات الحقبة الثقافية تؤرخ لواقع الثقافة والأدب فترة 1880، ولكن أصحابها رموا بها» يشير عز الدين. ويؤكد الرجل التسعيني أنه ربما تقف المعوقات المادية أمام شرائه المزيد من الكتب، ولكنه أمل كل الأمل أن يملك أولاده الحظ لتطويرها، بعد أن علمته مكتبته أن يرى العالم في حبة رمل، ومنحته الكتب القدرة على التغلب على شعور الوحدة لأن المكتبة ليست هواية، بل رسالة لتحسين مستوى الإنسان. وعلى الرغم من تنوع موجودات المكتبة، فهي لا تحظى بالاهتمام الكافي حيث إن أكثرية زوار المكتبة من المدارس التي تجلب طلابها من أجل تدريبهم على المطالعة وأقليتهم من المثقفين، مشددا على أن مستوى الثقافة لم يتراجع فهو منذ البداية متدنٍ وهذا من أسباب التخلف الذي نعيشه، وفق تعبيره.

ويكشف عز الدين أن الدولة كانت تحضّر مشروعا يتعلّق بالمكتبات وكيفية تطويرها، لكن هذا المشروع لم ينفذ لأنها انشغلت بالأزمات والمشكلات التي أصابت البلد وأبعدت الناس عن المطالعة لا سيما جيل الشباب في ظل قلة اكتراث البلديات على تنميتها والتشجيع على زيارتها والاستفادة منها.

ويؤكد أنه إلى الآن لم يتلقَ أي مساعدة لا من الدولة ولا حتى من البلدية، واقتصرت المساعدات على مبالغ محددة خصصها بعض الأفراد من أجل شراء بعض الكتب وإضافتها إلى المكتبة.

ويختم عز الدين بأن مشروع تطوير المكتبة لا يمكن تنفيذه إلا وقت السلم والاستقرار، عندها يستطيع رفع نسبة المطالعة من 3 في المائة إلى 30 في المائة، لكن هذا مشروط بالدعم الجدي الذي سيحظى به من أي جهة، من أجل الترغيب في المطالعة.