العنبر اللبناني من أقدم الكنوز.. ومعظمه موجود في فرنسا

10% من مساحة لبنان تحتويه وأحجاره ثمينة في الداخل والخارج

العنبر ليس مجرّد مادة ثمينة لصناعة الحلي والمجوهرات، بل هو نافذة على عصور ما قبل التاريخ
TT

يعيدك بالزمن إلى الحقبة الجيولوجية الممتدة بين 125 إلى 135 مليون سنة، أي إلى العصر الطبشوري السفلي، العصر الذي ظهرت فيه الأشجار والنباتات المزهرة، وكانت لا تزال تعيش فيه الديناصورات على سطح الأرض.

للوهلة الأولى تظن أن الحشرات والكائنات التي يحتويها حية ترزق لكنها في الواقع متحجرة ومنقرضة، لكنها محفوظة كلها بدقة عالية، حتى إن ألوانها تظهر أحيانا، وبعضها محفوظ بطريقة عجيبة: بوضعية تزاوج، أو بلحظة التصاق كائن طفيلي في حشرة أخرى، وكأن الزمان توقف للحظة عندما اتحد الصمغ بالحشرة.

إنه العنبر اللبناني الذي يتميز بخصوصية تكمن في كونه الأقدم عالميا في حواية كائنات بيولوجية، فرؤيته هي كالنظر إلى الطبيعة منذ 135 مليون عاما، ما يكسبه أهمية كبرى مقارنة مع عنبر روسيا الاتحادية الذي يعود أقدمه إلى 110 ملايين سنة، ونظيره في الولايات المتحدة الذي يقدر عمره بـ100 مليون سنة.

ويقول البروفسور داني عازار المتخصص بعلم الحشرات في الجامعة اللبنانية في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «إذا ما نظرنا من حولنا اليوم من النباتات نجد أن 75 في المائة هي مزهرة ولكي نفهم البيئة التي تحيط بنا، علينا أن نفهم أساسها أي منذ 135 مليون سنة، وهو العصر الذي تكونت به، وما من وسيلة لفهم تلك البيئة إلا من خلال دراسة الحشرات التي تعكس جزءا كبيرا من الطبيعة البيئية، ولا وجود لكائنات محفوظة منذ ذلك العصر إلا في العنبر اللبناني حيث درسنا وصنفنا حتى الآن ما يزيد عن 180 نوعا جديدا».

ويؤكد عازار أن العنبر هو أكثر بكثير من مجرّد مادة ثمينة لصناعة الحلي والمجوهرات، بل هو نافذة على عصور ما قبل التاريخ..، معتبرا أنه خدمة علمية كبيرة للعالم، كونه يتيح الفرصة لفهم تركيبة النظام البيئي في وقت تكوينه، استنادا إلى قانون تلازم التطور بين الكائنات النباتية والكائنات الحيوانية.

وتتراوح ألوان حجر العنبر اللبناني بين الأصفر الذهبي والبني الغامق والبرتقالي، ويتكوّن من أصماغ أشجار أُبَرِّية conifer (هي الأخرى منقرضة) التي أفرزت منذ نحو 135 مليون عاما وسقطت في الوحول آنذاك ثم تحولت بفعل عوامل الحرارة والضغط الجوفي للأرض إلى حجر يستخرج من باطن الأرض، لكن تعرّضه للأكسيجين يؤدي إلى أكسَدة القشرة الخارجية وبالتالي إفساده، لذلك يجب حمايته في أماكن خاصة.

وعلى الرغم من أنه تم العثور حديثا جدا على مفصليتين متحجرتين في عنبر في جبال الدولوميت في إيطاليا، عمرها 270 مليون سنة فإنهما ليستا محفوظتين بشكل جيد، وذلك الزمان على أهميته ليس بأهمية العصر الطبشوري أيضا وفق عازار.

أما في لبنان فقد وجد فريق عازار ما يزيد عن 400 موقع للعنبر، و22 موقعا منها تحتوي على حشرات محفوظة، كما وجد هذا الفريق 19 موضعا فيها عنبر من عصر «الجوراسي» ويعود عمره إلى 150 مليون سنة (لكنها للأسف لا تحوي حتى الآن على حشرات متحجرة)، بينما في العالم كله وعلى كامل الكرة الأرضية لم يعثر العلماء حتى الآن على أكثر من 60 موضعا معروفا.

وفي نظرة سريعة على انتقال العنبر اللبناني إلى العالمية يشرح عازار أن زميلا راحلا له في الجامعة الأميركية في بيروت ويدعى أفتيم عكرا أضاء على الموضوع أمام العلماء في العالم، فرأوا وجوب التوسع أكثر بدراسته، وفي فترة الحرب اللبنانية (1975 - 1990)، حمل عكرا مجموعته إلى انجلترا، وتحدث مع بول والاي (المسؤول عن الحشرات المتحجرة في المتحف البريطاني)، وقال له: «تخيل أن إحدى هذه الحشرات التي تمتص الدماء، كانت قد أخذت دم ديناصور قبل موتها»، فأخبر والاي أحد معارفه بالأمر، والذي كان صديقا لمايكل كرايتن الذي كتب كتاب «جوراسيك بارك»، ما لبث أن تحول الكتاب بعدها إلى شاشات السينما تحت هذا العنوان أيضا.

ومن الأمثلة على الكائنات التي يحتويها العنبر اللبناني، أقدم ريشة لطير في العنبر ويعود تاريخها إلى 135 مليون سنة وهي تشكل رقما قياسيا بالنسبة إلى أقدم بقايا طيور كانت في غوندوانا، القارة التي كانت تجمع في الطور الجيولوجي الثاني أراضي أميركا الجنوبية وأفريقيا والهند ومدغشقر وأستراليا والقطب الجنوبي.

إلا أن عازار يؤكد أن هذا الطير ليس هو أقدم الطيور المكتشفة حتى الآن، لأن أقدمها هو «الإركيوبتيريكس» الذي أمكن إثبات وجوده قبل 150 مليون سنة. كذلك عثر في بلد الأرز على أقدم فراشة في العنبر، وأقدم الذبابيات «الماصة للدماء» في العالم ويتراوح عمرها بين 125 و135 مليون سنة، وعلى خمسة أنواع من النمل الأبيض Termite (وتعتبر أقدم حشرة اجتماعية)، وأقدم حلزون وسقاية وعنكبوت وعقرب في العنبر. ومن هنا فإن السيدة فيروز لم تخطئ عندما تغنت بلبنان واصفة إياه بـ«جبال العنبر»، فالمناطق التي تحتوي على العنبر تشكل 10% من مساحة الأرض اللبنانية، حيث قارب عدد المواقع ما يزيد عن 400 موقعا في مناطق عدة أبرزها في ضهر البيدر، ميروبا، بشري، منصورية المتن، فقرا، فاريا، عيتا الفخار وجزين.

وبينما كان عازار يقوم في الماضي بكل الأبحاث على نفقته الخاصة، يشير إلى أن الجامعة اللبنانية اليوم تمول هذه الأبحاث، مؤكدا سعيه إلى استكمال هذه الدراسات والتنقيب عن كل جديد.

تجدر الإشارة إلى أنّ القسم الأكبر من عينات العنبر اللبناني موجود وبشكل مؤقت في «المتحف الوطني لتاريخ الطبيعة» في فرنسا، ويرجع ذلك إلى عدم وجود متحف مُشابه له في لبنان، بحيث يؤرشف لأنواع الكائنات التي مرت على هذه الرقعة الجغرافية، ويسعى عازار لإنشاء هكذا متحف يحفظ ارثنا الطبيعي الوطني.