في الأفق غيمة

محمود تراوري

TT

... ويجلس (ناصر) إلى نفر من أصدقائه في زاوية مهملة من الرصيف القابع في شارع خلفي قليل الحركة. يكون الوقت ليلا، والأنوار تنداح خافتة من أعمدة شاحبة تجذب كهرباؤها عصابات البعوض المتنوعة التي تتوافد مما خلفته مستنقعات المطر الذي يثير النقع والحزن والخراب، ويعري الخواء والهواء. يلتم (ناصر) على رفقة له تشاركه ذات التفاصيل، وفي رأسه تمضي أسئلة أشياء تحيره أكثر من أي شيء آخر.

إلى متى يظلون هكذا يمضون الوقت في زاوية الرصيف، يغنون ويستهبلون، فيتراكضون، ويقذفون بحجارة لفراغات الأفق؟ منذ أمد بعيد سمع من أخيه الذي يكبره بأكثر من عقد أن الحارات كانت تنفتح على برحات وحقول وفضاءات شاسعة تكفل لهم وللأطفال الركض وممارسة اللعب البهي، باعتبار اللعب غريزة عند الطفل. كان المجتمع ينمو، والبلد تحول لورشة كبرى، والشبيبة تمارس الرياضة في كل مكان، أي أنها لا تعدم مكانا تمارس فيه الركض أو المشي كأدنى الحقوق على بدن الفرد.

لكن ناصر لا يرى إلا أطفالا محشورين في الشرفات، وفتية يتكومون كالخفافيش والأشباح في ليل الشوارع. والنتيجة أجساد عليلة، أرهقتها البدانة وفقر النمو وهشاشة البنية، ما ينعكس بالضرورة على العقل وأنماط التفكير وبالتالي السلوكيات والقيم.

حين يستوقفني (ناصر)، وهو غالبا ما يحب أن يظهر بشخصية المختلف عن أقرانه، يسألني عن هل يكفي ما أنجز من مشاريع ضخمة للرئاسة العامة لرعاية الشباب خلال الثلاثين سنة الماضية، حيث المقرات النموذجية لكثير من الأندية، والمدن الرياضية في بعض المدن والمحافظات، التي تحوي ملاعب وبيوت الشباب، ومدينتين ساحليتين في جدة والدمام؟

كنت قد حدثته باكرا عن كل هذا، وتطارحت معه أسئلة عن لماذا لا يجدون لهم ـ كشباب وأطفال ـ أمكنة هناك؟

لكنه باغتني بتفكير لم أتوقعه وهو يقول، مشاريع الرئاسة التي تقول بها كانت قبل عقود، وخلال هذه العقود جرت مياه كثيرة إلى البحر جارفة ما جرفت. اتسعت المدن، وزاد عدد السكان، وأضحينا كشباب الرقم الصعب في معادلة التنمية، صرنا نمثل أكثر من 50% من نسبة السكان والنسبة مرشحة للارتفاع، فهل تدرك رعاية الشباب هذا؟

وتدرك ما معنى أن أجلس أنا و(أخواي) هنا على هذا الرصيف الذي تكاد تأكله بعيونك كلما مررت به؟ ونحن نقوم ونقعد عبثا حتى لا يأكل الرصيف مقاعدنا، وإخوتي الصغار معتقلون بين جدران الإسمنت، لم تهتم بهم الرئاسة فهي لرعاية (الشباب) ولا أي رجل أعمال يفكر في غير الربح، لماذا لا يفكرون في تأسيس أندية لهم، نعم (نادي طفل) في كل حي، يضمن لمستقبلنا نشئا قويا في تأسيسه العقلي والبدني، ما يوفر مساحة أمل في مشروع حلمنا صناعة المبدعين والأبطال؟

تركت ناصر يتداعى حلما، وأنوار الرصيف تزداد شحوبا، وفي الأفق غيمة تلوح.