التحيز.. هل بات أمرا واقعا؟

محمود تراوري

TT

في العلوم بشكل عام، هناك إشكالية خاض فيها الباحثون طويلا، لكن دونما تشنج أو تعريض أو تحريض أو إقصاء. إنها إشكالية «التحيز» الذي يعني طبقا للمعجم اللغوي «الانضمام والموافقة في الرأي».

ومن معاني التحيز «عدم الاعتدال» الذي يفترض شيئين اثنين تتحيز لأحدهما دون الآخر ملحقا ضيرا ماديا أو معنويا بالذي تحيزت ضده. وبناء على هذا عندما يلتقي - مثلا - فريقا ضمك وأبها، ويتفوق ضمك فنيا، لكنني كمعلق رياضي أنحاز في تقريري لأبها، سيعد تحيزي هنا مثلبة وأمرا مستقبحا، لأنه لم يقم أي اعتبار أو وزن لضمك. هنا تحضر الموضوعية «فأن تكون موضوعيا معناه ألا تتأثر بدوافعك وقيمك وموقفك الاجتماعي» هذه تسمية أطلقها ابن خلدون في العلوم الإنسانية، التي تعتبر الموضوعية فيها مشكلة محورية بحسب الدكتور صلاح قنصوه في كتابه «الموضوعية في العلوم الإنسانية: عرض نقدي لمناهج البحث» الذي يذهب فيه إلى أن النزاهة والتجرد لا يتحققان إلا في العلوم التجريبية، بينما يرى الباحث في الأديان وفي الحجاج في اللغة والخطاب الدكتور فضيل ناصري أن التحيز يطال جميع العلوم ومناهجها وآلياتها ومصطلحاتها، ويمس اليوم كل المجالات في حياة الإنسان كقطاع الإعلام وصناعة الخبر والمعلومة، ليصل إلى أننا لا نكون مبالغين إن قلنا إن التحيز يمس جميع مناشط الحياة.

هناك من يرجع أسباب التحيز إلى الأهواء والميول والقيم والمصالح. غير أن ناصري يرى أن التحيز إذا كان في أغلبه فرديا يتصل بشخص الباحث، فقد يصبح ذا طابع جماعي، تكون فيه الجماعة مصدره والباعث عليه.

يحصل هذا التحيز الأرعن وغير المنضبط متجليا في أبشع صوره في إعلام العصر الحديث في مجالاته كافة، وأبشع ما يكون حين يتجلى في الحقل الرياضي، حيث الطرح المتهافت الذي غالبا ما يقلب الحقائق ويشوش الصورة واقعا في التحيز.

التحيز الذي أضحى أمرا واقعا، في الإعلام الرياضي بل بات تحقيق الموضوعية التامة أمرا مستعصيا ونكاد نقول شبه محال، ذلك أن جذور التحيز تمتد لسنوات بعيدة كالجمر في ليالي الشتاء، ونشأت أجيال تعتنقه على أنه مسلمة من المسلمات، لحد أن ثمة كتابا وصحافيين جددا لا يجدون أدنى حرج أو حياء في إشهار ميولهم وتحيزهم لحظة تعاطيهم المهنة، ما يعني صعوبة تغيير زوايا النظر إلى إشكالية التحيز، وأن يتحدث المرء عن الدرجة المقبولة من التحيز والموضوعية مثلما يذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الفرنسي ريمون بودون.

وطالما وصلت إلى علم الاجتماع، يدهشني غياب هذا العلم كليا عن واقعنا الرياضي، إذ ينعزل الباحثون المتخصصون في هذا المجال الحيوي في مدرجهم الجامعي تاركين (الدرعا ترعى)!