آيدلوجيا القرن.. خروجا من نمطية التفكير

محمود تراوري

TT

الساعة الحادية عشرة بالتوقيت المحلي، الأربعاء الماضي، لحظة أحسست فيها بأن العالم يتوحد بشكل شبه مطلق، يغدو شاعريا وجميلا. يتساوى السياسي في أعلى هرم السلطة، والإنسان المسحوق في القاع، من أقصى الأرض لأقاصاها. ينسي كل الانتماءات والآيدلوجيات التي تتحد كلها في الكرة. ذكرانا وإناثا، سودا وحمرا وصفرا وبيضا ومن هم بلا لون، لما يشع من داخل أرواحهم من ضياء يلغي التمايز ويتذكر الإنسان في كل بقاع الدنيا، وهو يحتفل بصعود إسبانيا وهولندا للنهائي، فيغدو الفرح مشاعا، فائضا إنسانيا، على نحو ما ستوفره الليلة من استعادة للحظة التي توحد فيها العالم الأربعاء، حين شخصت أبصار الكون نحو البلاد التي كانت رمزا وأمثولة وصارت أيقونة للتساوي بين بني آدم.

إسبانيا / هولندا إذن، كأن العالم ملّ المألوف والمهيمن والمستبد كرويا، أو كأنما القرن الواحد والعشرون بدأ يجد في تشكيل ملامحه مع قرب انتهاء عشريته الأولى.

كل قرن ينتج فلسفته ويخلق إيقاع سيره. فإذا كان الإبداع العالمي في تراجع، فلا يوجد موسيقيون كبار ولا فلاسفة عظام ولا مبدعون خلاقون في اتجاهات مناشط الإنسان كافة، ولا طغاة دواه كذلك، على غرار ما شهد القرن العشرون، فهذا ملمح القرن إذن. لم يعد هناك مجال لطغيان الفرد ونجوميته المكرسة، بل هي روح الجماعة التي يسهل وجودها، في الأفراد الذين لا تعاني دواخلهم خرابا. بداية قرن يتجاوز أنماط التفكير القديمة وبما يجعلك تمعن في استيعاب ماهية العولمة بعيدا عن التنظير الكثير الذي كنت تسمعه وتقرؤه منذ التسعينات الماضية، فتقتنع بأن واحدا من أسطع الأشياء جمالا للمونديال هو التأكيد على عولمة الأشياء.

يقول هذا أحد الذين يتأملون بهدوء فيما يحدث من تحولات، ويهجسون بأن هذه دورة التاريخ التي تحكم نهاية قرن وبداية قرن. وأن مقاييس القرن العشرين لا يمكن أن تكون صالحة لقياس الأشياء والحكم عليها.

خروج البرازيل والأرجنتين وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا ولحقتهم ألمانيا، لا نخضعه لمقاييس قرن الآن، فله معياريته الخاصة التي تشكلها الميديا الجديدة بكل تنوعاتها وآلياتها وأوعيتها الاتصالية. كانت «المباراة تبدو كأنها بين برشلونة وبايرن ميونيخ، لأن كلا المنتخبين مكون في الغالب من هذين الفريقين» معلومة تلتقطها من فم فتى لا ينتمي في نمط تفكيره لمقاييس عصرك، فهو متحرر تماما من فكرة أن البرازيل أقوى وأجمل. لا يفكر مثلك، حين تظل فكرتك نمطية عن إسبانيا. أبدا هو ينتمي لأفكار تنتجها الميديا التي تجعله متابعا ومعتبرا الدوري الإسباني الدوري الأكثر متابعة وسحرا في العالم، وهذا لا يعني أنه الأقوى، فالقوة وحدها غير جاذبة ما لم يكن هناك شيء ساحر لا يمكن وصفه، فيكون منطقيا أن تتأهل إسبانيا للنهائي. هو لا يفكر مثلك حين تعتبر أن تواضع المنتخب الإنجليزي سببه اعتماد الدوري المحلي على اللاعبين الأجانب، لأنه يرى عكس ما تفكر فيه فلا يراه ينطبق على إسبانيا.