وبعد أن أدارت كرة القدم لنا ظهرها

سعد المهدي

TT

تشتعل الحرب الكلامية، في الإعلام والمجتمع، جراء النتائج السيئة لـ7 منتخبات عربية، دفعت ثمنها خروجا غير مشرف من منافسات كأس أمم آسيا الـ16 لكرة القدم المقامة حاليا في أستراليا، وفي انتظار أن يلتحق بهم منتخبان عربيان آخران اليوم وغدا، هما الإمارات والعراق، لتتسع دائرة الهياج واللوم والسخط وتكتمل.

يروي الأديب سلام الراسي، مما جمعه من الأدب الشعبي الشامي، ونشره في سلسلة «حيص بيص»، أنه منذ أن سقط خليل رضوان آخر مجنون شرعا في قريتهم من على سطح بيته ومات خلا مقعد مجنون القرية، وأحدث غيابه ثغرة في محيطهم الصغير، وكان لا بد من وجود مجنون آخر، يبعث الطرافة في مجالس القرية، ويساعد في تحريك ركود الحياة فيها، وإزالة الرتابة عن أيامها ولياليها.

صاحبي الذي على علم بهذه المروية الطريفة، وبعد أن أضناه السهر في استراحات ومجالس الأصدقاء والخلان، فاغرا فاه، مستسلما لما تعرضه الفضائيات من برامج (فضفضات)، تلاك فيها الرياضة ويتجشأ بنجومها ورموزها، سألني جادا كم مجنونا ما زالت تحتاجهم قرية الراسي؟ ولم أرغب أن أخبره لأنهم يريدون واحدا فقط وأنا أعلم أنه قد اختار من هؤلاء على الأقل 10.

تصنع الغضب، والادعاء بالشعور بالحرقة والقهر «المتلفز»، من طرف البعض، لم يعد ينطلي على الآخرين، أو على الأقل لم يعد له تأثير يحدث التفاعل أو الفعل، فهو كلام تكرر في مناسبات عدة يمكن أن يتم حفظه عن ظهر قلب، ومن المضحك أن هذا التشنج واللطم، من مواطنين ومناصرين لمنتخبات، يعلمون أنها الأقل حظا في أي حال من الأحوال، فيما مثلا أستراليا الأكثر ترشيحا والمنافسة على كأسها لاعتبارات عدة لم تول البطولة اهتماما جماهيريا، أو إعلاميا، يوازي نصف ما يفعله من هم على هامشها.

الصحف الأسترالية، رصدت 5 مواجهات فقط في هذه المنافسات تستحق الاهتمام، وحددتها قبل بدء البطولة، وأخبار لعبة الكريكيت تتصدر الصفحات الأولى للصحف قبل وخلال مباريات البطولة، وحتى المتخصصة منها مثل «سبورتس داي». كان خبرها الرئيسي، اليوم الذي سبق الافتتاح، عن المنتخب الأسترالي للكريكيت، وافتتاحية الملحق الرياضي لصحيفة «ذا ديلي تيلغراف» الأسترالية كانت تتحدث عن المنتخب الهندي للكريكيت، كذلك فعلت «ذي أستراليان» في صفحتها الأولى حيث احتلها بالكامل خبر عن الكريكيت، ولم تجئ على الإطلاق على ذكر مباراة منتخب البلاد أمام نظيره الكويتي، فيما لم يتجاوز معدل حضور المباريات الـ16 ألف متفرج، ناهيك عن الشكاوى المتكررة من سوء أرضية الملاعب التي تقام عليها المباريات في المدن الـ5، خاصة ملعب لانغ بارك في بريزبين، الذي يتسع لأكثر من 52 ألف متفرج.

أستراليا التي نظمت لأولمبياد 1956 و2000. وتنظم بطولة أستراليا المفتوحة للتنس، والفورمولا (1)، ورياضيوها الأكثر فوزا بميداليات السباحة أولمبيا، وفي ركوب الأمواج، والزوارق السريعة، والشراعية، ليس في حساباتها كرة القدم «الحقيقية» وهذا الوصف أطلقه المدير التنفيذي لكأس آسيا 2015 مايكل براون على ما يلعب الآن في هذه المنافسات، وهي مجاملة اضطر في ظني لها، لأن أستراليا تعرف جيدا كرة القدم (الرغبي) ذات القواعد الأسترالية بملاعبها الطولية والبيضاوية، وتأتي لعبة الكريكيت في المرتبة الثانية من حيث الشعبية بعد الرجبي، في مجتمع 80 في المائة منه من أصول أوروبية، وكرة القدم التي نلعبها في ذيل الترتيب، ورغم ذلك فقد ضمنت التأهل للمونديال، إلى ما ليس له مدى، بفضل انضمامها لعضوية الاتحاد الآسيوي.

الرياضة التي يترحم عليها أطراف الحرب الكلامية، ويرثيها شعراؤهم، ويبكيها مرهفو الحس من بينهم، هي «كرة القدم» لا يعرفون غيرها، وتسمى بها كل الرياضات، يشعرون أن الرياضة بخير إذا حقق فريق كرة القدم انتصارا، وبالخيبة والإحباط حين يهزم في مبارياتها فقط، ليس لهم شأن بغيرها إلا في ادعاء زائف، أو لذر الرماد في العيون، هذا المتقوقع في كرة القدم وعالمها، والانغماس في أدق تفاصيلها، سد أفق المعرفة والوعي بغيرها حق المعرفة، وحرمها من شيء من هذا الفائض من المشاعر الجياشة، وزاد من رفع الحاجز بينها والمجتمع، وأقنع المسؤولين بعدم الحاجة لصرف الجهد والمال عليها، لتحقيق التعددية الرياضية، التي كان يمكن لها أن تتوزع في وجدان وضمير الفرد، فتقاسم الكرة الاهتمام والشغف، وتفتح مسارب تخفف احتقان الحب من طرف واحد، بعد أن أدارت كرة القدم لنا ظهرها.