سنتان بعد القذافي

افتتاحية «الشرق الأوسط»

TT

تعيش ليبيا هذا الأسبوع ذكرى مرور سنتين على الثورة التي أنهت حكم العقيد معمر القذافي، وهذه فترة لا تُعد طويلة في عمر تجربة تغيير تعيشها دولة ما؛ فكيف إذا كانت الدولة المعنيّة ليبيا، في ضوء ما عاشته منذ 1969؟

ليبيا، إحدى أكبر دول أفريقيا مساحة، وأغناها من حيث ثرواتها الطبيعية والسياحية، كانت قبل ما عُرف بـ«ثورة الفاتح»، ولو من الناحية النظرية، مرشحة لتحقيق كل أشكال النجاح الاقتصادي والتنموي. فهي بإزاء ثرواتها النفطية الضخمة ومساحة أرضها الشاسعة، قليلة السكان نسبيا، ما من شأنه أن يكفل لجميع مواطنيها بحبوحة ترفع معدلات التنمية البشرية فيها إلى مصاف أرقى الدول النامية. غير أن هذا الحلم الجميل في أذهان كثيرين سرعان ما تلاشى في خضمّ المغامرات الخارجية التي ورّط نظام القذافي ليبيا فيها، قفزا من التحمّس للعروبة وعقد «الوحدات» السريعة في أي ظرف ومع أي كان، إلى النفور من العروبة والعرب، والانتقال بتحمس مماثل نحو «الأفرقة» الخالصة، ووصولا إلى التتويج على عرش «ملك ملوك أفريقيا»، وهذا بعدما كانت «ثورة الفاتح» السند المالي والتسليحي لعشرات الحركات الثورية والراديكالية على امتداد المعمورة. ولكن ما بدد الحلم لم يكن مغامرات السياسة الخارجية فحسب، بل أسهمت السياسة الداخلية إسهاما مباشرا في انحراف البوصلة. ذلك أن النهج الذي اعتُمد في ممارسة السلطة انطلق من عسكرة الحكم في بواكير الحقبة الثورية ليصل إلى تفجّر التناقضات بين الضباط الشبان. ثم تفاقم الوضع مع فرض القبضة الحديدية لأجهزة الاستخبارات، بالتوازي مع التدمير الممنهج لمؤسسات الدولة، وتركها نهبا لفوضوية «اللجان الشعبية»، ناهيك عن اللعب على وتر الانقسام القبلي والمناطقي، الذي كاد يدمر أي إمكانية لحماية الوحدة الوطنية وصيانتها.

اليوم، بعد مرور سنتين على تحرّر ليبيا من تلك الحقبة الطويلة المضنية، أمام الحكم الجديد تحديات عليه مواجهتها بشجاعة، على الرغم من الإيجابيات الكثيرة التي تميز ليبيا عن الدول الأخرى التي عاشت «الربيع العربي». فمقابل الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة التي تتمتع بها بالمقارنة مع جارتيها مصر وتونس، حيث ظلت هناك مؤسسات سلطة وإدارة قائمة وفاعلة، يجب الإقرار بأن ليبيا في حاجة ماسة لإعادة بناء الحس بالمواطَنة، ومعه إعادة بناء «مؤسسات الدولة» من الصفر تقريبا، بعدما انهارت، بل ألغيت، في عهد القذافي.

مسألة صون الوحدة الوطنية عبر إنقاذ ليبيا من النزاعات القبلية والفئوية والمناطقية تشكل أيضا تحديا جديا، على الحكم الليبي الجديد أن يوليه اهتماما بالغا، لا سيما بعدما ظهر مدى استغلال الحكم السابق لتنوّع نسيج المجتمع في ارتفاع المطالب الانفصالية لبعض الجماعات، والصدامات المسلحة بين المدن، والحزازات بين قبيلة وأخرى.

ثم هناك مسألة الإرهاب وانتشار السلاح. ولعله من نافلة القول أنه لا مجال للتنمية إذا ما ظلت السلطة عاجزة عن فرض هيبتها، ولا فرصة لإعادة البناء حيث يهدم المسلحون كل ما يُبنى من ثقة بدولة وتعايش، وطبعا لا سيادة عندما تنتهك زمر الإرهاب المسلح، من خارج ليبيا، الحدود بلا حسيب أو رقيب.

لقد خطت ليبيا الجديدة خطواتها الأولى نحو الديمقراطية بإيجابية تستحق التنويه، إلا أن هناك ضرورة لصيانة هذه التجربة الوليدة وتحصينها بالنيات الصادقة والكثير من الجهد الجاد. والشعب الليبي جدير بأن تنجح التجربة في ضوء تضحياته السخية سعيا وراء الحرية والحكم الرشيد.