الشراكة في الحكم ومصلحة الوطن

افتتاحية «الشرق الأوسط»

TT

بات الحديث عن «الشراكة في الحكم» أحد الشعارات المألوفة التي يرفعها ويكررها أهل السياسة في عدد من العواصم العربية من بغداد إلى تونس، مرورا بطرابلس وغيرها. وهذه في الواقع «شراكة» يُفترض أن تعني التشارك أو العمل معا في خدمة الوطن، والحرص على حسن إدارته لما فيه مصلحة المواطن، لكنها في الغالب تحولت عن الممارسة إلى تقاسم غنائم وتوزع خيرات الوطن ومنافع السلطة، كما لو كانت أسلاب حرب.

وفي حين لدى بعضهم تصور بأن المحاصصة المبنية على الولاء الطائفي أو الإثني أو القبلي تشكل ضامنا لحقوق مختلف مكونات دولة تعددية، كحال عدد من الدول العربية، يجب الاقتناع بأن هذا التصور خاطئ، لأن التجارب العملية في الدول الراقية أثبتت أن صمام الأمان لأي شراكة حقيقية بين مكونات أي بناء، يستند إلى بناء مفهومَي المواطَنة والمؤسساتية.

ثم إن الفكرة من «الشراكة في الحكم»، إذا خلصت النيات وأحسن التطبيق، عادة ما تتمثل في حكومات ائتلافية تجمع أحزابا وتنظيمات مختلفة قد لا تكون برامجها في الأصل متطابقة، لكنها عبر تحليها بروح المسؤولية تقرر التضحية بمشاريعها الخاصة بمصالح ناخبيها حصرا، وتنحي المنافسة السياسية جانبا داخل الحكومة، من أجل تبني خطط أشمل برؤية وطنية. وهذا ما نراه في عدد من حكومات الدول الراقية، ولا سيما تلك التي تعتمد نظام التمثيل النسبي الذي لا يتيح لحزب بمفرده احتكار الحكومة.

أما ما هو حاصل في عدة دول في عالمنا العربي، فالعكس تماما، إذ تولد الحكومات منقسمة، فتسهم في تقسيم الساحة السياسية، في غياب أرضية وطنية جامعة تتسع للجميع، وآلية سلمية عادلة وواعية تساعد على تسوية الخلافات.

الاستثناءات، بطبيعة الحال، موجودة، فحتى في الدول الديمقراطية، تفشل شراكات الحكومة الائتلافية الناتجة عادة عن أزمات سياسية متتالية لم يتحقق لمواجهتها التفاهم الوطني العريض. وخير مثال على ذلك الأزمة اليونانية الأخيرة، بل هناك إيطاليا، التي طالما عانت من تشرذم سياسي أنتج صفقات ائتلافية عابرة، أدت بدورها إلى عقود من تساقط الحكومات وانهيار عدد من الأحزاب الكبيرة. وها هي اليوم تواجه برلمانا منقسما بلا أغلبية لأي فريق بعد انتخابات لا حسمَ فيها، بعد سقوط حكومة رئيس الوزراء السابق ماريو مونتي نتيجة فقدانها دعم كتلة رئيس الوزراء اليميني السابق سيلفيو برلسكوني. ولكن على النقيض من إيطاليا، حيث الساسة الكبار أقوى من مؤسساتهم الحزبية، نرى كيف تعيش بريطانيا مرتاحة في ظل حكومة ائتلافية بين حزبي المحافظين والديمقراطيين الأحرار، المختلفين تماما من الناحية الآيديولوجية، وذلك لأن مؤسستي الحزبين غلبت الشراكة الحقيقية والقواسم الوطنية المشتركة على أولوياتها الضيقة. أكثر من هذا، يلاحظ المراقب أن اثنين من أطول رؤساء الحكومات البريطانية عمرا خلال العقود الأخيرة، هما مارغريت ثاتشر وتوني بلير، سقطا ليس بأصوات الخصوم، بل من داخل المؤسسات الحزبية لحزبيهما، وذلك لأن المؤسسة أقوى وأكبر من أي زعيم، واستطرادا، لأن الوطن أثمن وأبقى من أي حزب.