وداعا للسلاح

افتتاحية الشرق الاوسط

TT

وسط تلبد سماء السياسة في الشرق الأوسط بغيوم داكنة كثيفة بفعل تقاطع مشاريع النفوذ الإقليمية مع مصالح القوى الدولية النافذة، تلوح اليوم بوادر تسوية سلمية لأزمة طويلة هي النزاع التركي الكردي.

الخلفيات التاريخية لهذا النزاع لا تُختصر، بطبيعة الحال، في عجالة. ذلك أنها مزيج من الاختلاف القومي - اللغوي والتنازع الجغرافي وإرث السلطنة العثمانية الكبرى المترامية الأطراف والجامعة عددا من القوميات.. مقابل «واقع التجزئة» الذي فرض على الأكراد عبر القرون، وعلى استمراره اتفق جيرانهم وداعمو جيرانهم في العواصم العالمية. وهكذا عندما امتدت الدولة العثمانية من الجزائر إلى اليمن ومن أطراف إيران إلى النمسا، وأسس الصفويون في إيران دولتهم المزدهرة في الشرق الأوسط، كان نصيب الأكراد التقسيم والتفتت، بل في حالات كثيرة، الذوبان.

والحقيقة أن المعاناة والتهميش الأقسى أصابا أكراد المناطق الخاضعة للهيمنة التركية بعد نهاية حقبة الخلافة العثمانية، وخصوصا أن البديل الذي عاش الأكراد في ظله داخل الجمهورية التركية كان البديل القومي العلماني التركي بعد النموذج الإسلامي الحنفي العثماني. ثم إن في أراضي الهيمنة التركية عاش - وما زال يعيش - نحو نصف مجموع أكراد العالم، ولكن من دون الاعتراف بتمايزهم العرقي والثقافي، إذ أشير إليهم طويلا باسم «أتراك الجبال» في حين كان أكراد العراق وإيران وسوريا يلعبون أدوارا سياسية لا بأس بها في دولهم.

طي صفحة نزاع طويل له هذه الحدّة، وبالصورة الشجاعة التي شاهدنا خلال الأسبوع الماضي عبر بيان عبد الله أوجلان، ثم الترحيب الرسمي التركي، خطوة تبشر بالخير لجملة من الأسباب، أبرزها أنها تجسد مفهوما جديدا لمعالجة الأزمات السياسية يقوم على الواقعية، والنظر إلى المستقبل بعد رفض الاستسلام لأحقاد الماضي، ومن ثم السعي لإيجاد قواسم مصلحية مشتركة في عالم سريع التغيّر لا ينتظر المتردّدين.

هناك مثال في أوروبا الغربية، عاشه طويلا الآيرلنديون في إقليم آيرلندا الشمالية، يجمع مثل النزاع التركي - الكردي عناصر الهيمنة والتهميش والاختلاف الثقافي وثقل التاريخ. غير أنه بعد عقود من التناحر اكتشف غلاة البروتستانت الموالون للندن ومتشددو الكاثوليك الجمهوريون الحالمون بجزيرة آيرلندية موحدة أن أولويات اليوم تختلف عن أولويات الأمس، وأن العالم من حولهم يتغيّر. وها هم أعداء الماضي في أوروبا كلها يحملون اليوم «هوية أوروبية» واحدة ويتداولون عملة واحدة، بعدما أسقطوا حواجز السياسة على الرغم من فوارق اللغة والعرق والطائفة.

في الحالة التركية - الكردية اليوم، ثمة اعتبارات جديدة ومعادلات بديلة على مختلف الصعد، فلا حكام أنقرة الحاليون علمانيون وقوميون متعصبون، ولا التحدّي الإيراني الذي يتمدّد بمضمونه المذهبي في كل الاتجاهات عاد يشكل عامل طمأنة لكتلتين بشريتين هما ثاني وثالث أكبر الكتل العرقية السنية في الشرق الأوسط. ثم إن الصراع العربي - الإسرائيلي، وتجربة الإسلام السياسي عربيا، أيضا أوجدا حالة استدعت من القيادات التركية والكردية بمختلف أطيافها إعادة تقييم لما تريده وما لا تريده.

وأخيرا، لا آخرا، هناك المناخ الدولي المحيط بمنطقة الشرق الأوسط ككل، وقد اختلف جذريا عما كان عليه في عقد الخمسينات من القرن الماضي، حين ارتسمت ملامح «حلف بغداد» لتجمّع «مثلث» طهران - أنقرة - بغداد إبان احتدام «الحرب الباردة» التي كان لها ما كان من انعكاسات لدور موسكو تسليحيا وآيديولوجيا على حالة الشرق الأوسط عموما، وعلى الحالة الكردية بصفة خاصة.