دروس عراقية

افتتاحية «الشرق الأوسط»

TT

بعد عشر سنوات على غزو العراق، يدرك كل راصد مدقق ليس فقط أن الجدل ما زال محتدما حول جدوى الغزو الذي أفضى إلى إسقاط النظام السابق بعد حقبة من الاحتلال العسكري والتحكم الإداري، بل أن ثمة حقائق وضعها الغزو – ثم الاحتلال – نصب أعين عدة جهات ذات صلة، تأثير بعضها يبدو أقوى من أي وقت ومضى.

الجدل المحتدم يتناول، خصوصا، ما إذا كان «حكم الفرد» التسلطي يظل أقل سوءا من فوضى يتسبب بها سقوط الدولة القوية التي كانت ذات يوم ممسكة بكل مفاصل القرار، وتشكل المرجعية الأمنية الوحيدة. والمرجح أنه لدى النظر إلى طبيعة حكم النظام السابق، وتوجهاته الأحادية الحادة في معالجة أي خلاف فردي أو فئوي، ما كان ممكنا شعور أي عراقي بأي شكل من أشكال الحنين إلى الماضي لو كان البديل قد أثبت منافعه بصورة قاطعة. وما يناقشه المتجادلون اليوم، داخل العراق وخارجه، هو أنه في كلتا حالتي النظام السابق والنظام البديل الحالي، هناك مجموعة من السلبيات تقابلها مجموعة من الإيجابيات؛ بمعنى أن الفوارق في الحصيلة النهائية سلبا أو إيجابا تبدو ضئيلة.

وحقا، يجوز القول إنه مقابل التسلط والحكم الفردي و«الدولة الأمنية» والاستخفاف بحق المواطن والجماعات الفئوية، كان هناك قدر مقبول من الأمن، على الأقل لمن لا يسعى للخوض في السياسة، كما كانت «الذراع القوية» للدولة كفيلة بإشعار المواطن بأنها موجودة، وأنها قادرة على حمايته وحماية مصدر رزقه ما لم يكن ناشطا معارضا.

وفي المقابل، مقابل آفات الفوضى الأمنية والتطرف الفئوي والفساد والمحاصصة الفئوية في ظل النظام الحالي، ثمة من يشير إلى حسنات ملحوظة تتجسد في زوال منغصات الكبت والتضييق ومصادرة الحريات العامة والقسوة المزاجية والمجازفات السياسية والعسكرية غير المحسوبة.

وبناء عليه يغدو السؤال الأهم هو ذلك الذي يتعلق بالثمن الذي دفعه العراقيون، ودفعته القوى التي شاركت في إحداث التغيير بالقوة.. فهل كان ذلك الثمن الباهظ متناسبا مع ما تحقق؟

وعطفا، على الخلفية المحيطة بالأزمة السورية التي جاوزت حاجز السنتين خلال الشهر الفائت، يمكن إضافة سؤال ثان هو: لأيهما الأولوية؟ أهي للاستقرار بأي ثمن، ولو كان «استقرار القبور» حسب وصف أحد كبار المفكرين السوريين، أم لتعايش حقيقي صحيح قد يكون مكلفا بشريا وماديا؟

ثمة من يقول إن «الدرس العراقي» عامل مؤثر جدا يتحكم بالمقاربة الأميركية المتذبذبة إزاء الملف السوري؛ فكثرة من الساسة الأميركيين والأوروبيين، ومعهم قطاع واسع من المحللين الإعلاميين المرموقين، يتفهمون من واقع ما حدث وما زال يحدث في العراق، ضرورة التفاهم على ما سيحمله «اليوم التالي».. أو «الغد»! ثم ما هو البديل المقبول؟ وبأي مستوى من المسؤولية يجب أن يتحلى هذا البديل لكي يؤتمن على البلاد.. فلا يتركها فريسة للفوضى والتطرف والعنف؟

«الدرس العراقي»، ولا سيما الشق الخاص بـ«اليوم التالي» منه، يقلق اليوم كل الجهات المعنية بعد عشر سنوات على التجربة. ولكن، من الضروري هنا التمييز بين الهواجس المفهومة بعد انكشاف أمر المعطيات المغلوطة... والسياسة المبدئية التي تأخذ في الاعتبار ما هو حاصل بالصوت والصورة.