سوء ممارسة السلطة

افتتاحية «الشرق الأوسط»

TT

التأزم الجديد - القديم في العراق، المتفاقم بفعل أحداث الحويجة وسليمان بيك، يأتي ليؤكد - إن كان ثمة ما يحتاج إلى تأكيد - أن التغيير السياسي يبقى غير ذي معنى طالما ظل يلامس السطح ولم يدخل إلى العمق.

وما يبدو من مجريات الأحداث في العراق منذ 2003 أن التحدي الكبير كان في إيجاد صيغة تعايش حقيقي في ظل وحدة وطنية تستحق اسمها، ومواطنية صحيحة منزهة عن الأهواء، ومؤسسات جامعة تتعامل مع كل عراقي وعراقية تحت راية المساواة في الحقوق والواجبات والإحساس بالمسؤولية.

التغيير الذي أحدث ذلك الزلزال السياسي والعسكري الهائل عام 2003 ما كان محبو العراق يرجون منه انتقام هذه الفئة من فئة منافسة، ولا تغليب منطقة كانت مهمشة على منطقة كانت تنعم بامتيازات خاصة إبان العهد السابق.

أبدا، كان محبو العراق والحريصون على مصلحته ومصلحة شعبه ومستقبله، يأملون بتغيير جذري في ذهنية ممارسة السلطة، وتحديدا، ممارسة السلطة بمعزل عن الشعور بالغبن أو الزهو بالغلبة والقدرة على الانتقام، وكانوا يطمحون إلى بناء توافق شعبي واسع يصون مؤسسات الدولة والجيش وقوى الأمن، ويجنبها جميعا مخاطر تقزيمها أو تجييرها لخدمة هذا الطرف أو ذاك.

إن تجربة العراق خلال السنوات العشر، على الرغم من خصوصية العراق مثله مثل أي بلد آخر في العالم، لهي على صلة بتجارب مماثلة ما كانت أقل سوءا ولا أقل تعقيدا من التجربة العراقية. في لبنان مثلا، شعر قسم من اللبنانيين لفترة غير قصيرة من تاريخ بلدهم بالغبن، بينما شعر شركاؤهم في الوطن أن الكيان اللبناني إنما أوجده الانتداب الفرنسي لخدمة مصالحهم وحمايتهم من محيطهم. وكانت الحصيلة الطبيعية لشعور الفريق الأول بالغبن المزمن، والفريق الثاني بالحق الطبيعي في الهيمنة تحت ذريعة الدفاع عن النفس، تفتت الدولة ومؤسساتها واندلاع حرب أهلية - إقليمية طالت 15 سنة ودمرت الاقتصاد وهجرت مئات الألوف من خيرة العقول والخبرات.

واليوم يحدث الشيء نفسه تقريبا في سوريا، جارة العراق ولبنان و«توأمهما»، حيث أدى الكبت الطويل الناتج عن احتكار فريق من السوريين السلطة وسيطرته على الأجهزة الأمنية والموارد الاقتصادية، إلى تنامي شعور بالغبن عند الغالبية، وأدى إلى مرارة في أوساطها تحولت لاحقا إلى النقمة، ومن ثم إلى انتفاضة تعامل معها الحكم المتسلط بالطريقة الوحيدة التي يعرفها ويجيدها، ألا وهي الحديد والنار.

لا أحد يشكك في حق الحكومة العراقية، لا اليوم ولا غدا، في ممارسة دورها بصفتها حكومة، بل هذا أبسط واجباتها.. ولكن ممارسة الحكم لا بد أن تقوم على التفاهم الوطني العريض وإقناع المواطن بأن السلطة حقا على مسافة واحدة من جميع مكونات الوطن.

والجيش الذي قد يجنح البعض إلى الزج به اليوم في أزمات داخلية لا حل لها إلا بالحوار المبني على الثقة، يجب أن يظل جيشا وطنيا لا أن يتحول إلى ميليشيا. وهذا يعني بالضرورة أن يظل، مثله مثل القضاء ومرافق الإدارة العامة، فوق المحاصصة السياسية والتجاذب.

لقد اكتشف اللبنانيون بالأمس ويكتشف السوريين اليوم أن مؤسسات الدول لا تحتاج إلى قرار خارجي باجتثاث هنا وحل هناك، بل يكفي سوء استخدام السلطة لتدمير صدقية المؤسسات المولجة بالحفاظ على الوطن والسهر على أمن المواطنين ومصالحهم.