مصر.. الوطن أولا

افتتاحية «الشرق الأوسط»

TT

خرج المصريون، بشتى أطيافهم، إلى الشوارع أمس، وامتلأت الميادين العامة في معظم المدن الرئيسة، بالمحتجين، في مشهد أعاد للأذهان، أجواء أحداث 25 يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك.

فمصر تمر بمرحلة دقيقة في تاريخها، بين أن تكون دولة ديمقراطية أو لا تكون.. أن تمضي بديمقراطيتها إلى الأمام، أو أن تعمها الفوضى، أن تخطو نحو الاستقرار والأمن أو أن تدخل في نزاعات داخلية لا تنتهي ولا يعرف مداها.

فرئيس البلاد الذي جاء عبر صناديق الاقتراع، وهو أول رئيس مدني منذ أكثر من نصف قرن، يواجه تحديا كبيرا، لشرعيته، بخروج ملايين المحتجين، المطالبين بتنحيه، بعد عام واحد من وجوده على السلطة، مما يعني أن صناديق الاقتراع لم تعد وحدها تكفي لتثبيت شرعية الحاكم.

وللمعارضة بأشكالهاكافة، الحق في المطالبة بتصحيح الأوضاع، وتكريس العمل الديمقراطي، إلى حد الدعوة لانتخابات مبكرة. فما شهدته البلاد خلال عام واحد، وبعد أول انتخابات حرة، في البلاد، منذ أحداث 25 يناير 2011، يعد كارثيا، بتفشي الفوضى الأمنية، وتهاوي الاقتصاد وتدهور العملة المحلية، وتزايد الدين العام، وتوجيه ضربات قاسية لم يتحملها قطاع السياحة، الذي يعد من أهم أعمدة الدخل القومي، بالإضافة إلى عجز سياسي، واجتماعي غير محتمل.

فالدعوة لانتخابات مبكرة ليست بدعة مصرية، فقد جربتها عديد من الدول. وشهدت أوروبا وحدها خلال السنوات الأخيرة أكثر من 8 انتخابات مبكرة، من بينها، بولندا سنة 2007، إبان حكم رئيس الوزراء ياروسلاف كاتشينكسي، وفي إيطاليا سنة 2008، كما جرت في بلجيكا عام 2010، وفي البرتغال واليونان سنة 2011، وإسبانيا العام الماضي. وخارج أوروبا جرت في كندا وفنزويلا وفي الأرجنتين. فالخطوة إذن ليست «كابوسا» سياسيا، ولكنها أحد الاستحقاقات المهمة في مسار أي ديمقراطية حقيقية في العالم.

وأمام حزب الحرية والعدالة الحاكم في مصر الآن، أن يثبت للعالم الذي يترقب ما يحدث في مصر أنه فوق الحزبية، وأن الوطن هو الأهم، وأن يتحلى بالشجاعة الكافية بالانصياع لمطالب الناس، والمضي قدما في تلبيتها بالدعوة لانتخابات مبكرة، إذا دعت الضرورة.. وإذا كانت حلا وسطا للخروج من الأزمة الطاحنة. فاحترام إرادة الناس هي من أولويات الحاكم.

لكن هذا لا يعفي المعارضة أيضا من التزام الاستحقاقات الديمقراطية، ولعل أولها تأكيد نبذ العنف، والتجريح، ومحاولة إلغاء الآخر. وعليها أيضا حمل مسؤولية الخروج بمشروع مشترك مع القوى الحاكمة من أجل استقرار ووحدة البلاد.

فمشكلة مصر الآن هي غياب برامج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية سواء للحزب الحاكم أو معارضيه، ناهيك عن رؤية شاملة للمستقبل. فالتحديات الجسيمة يجب أن يقابلها برنامج عمل واحد لمنع وقوع البلاد في فخ الفوضى، أو الانزلاق إلى نزاعات أو حرب أهلية طاحنة.

وتقع على عاتق جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها.. وكذا معارضوها، مهمة العمل على وضع استراتيجية قومية متفق عليها، والمحافظة على وحدة النسيج الاجتماعي المصري بطوائفه الفكرية المتعددة، وأبعادها من محاور الصراع. فحقوق الوطن يجب أن تكون محل احترام وتقدير كل الأطراف، لأن الوطن للجميع، بمختلف أطيافه وأعراقه وثقافاته.

فهذا الثراء هو الذي ميز مصر عبر العقود والسنوات، وتعرضه للتهديد، يضع مصر والمنطقة كلها أمام مصير مجهول. فالعالم العربي ينظر إلى مصر مترقبا عما ستسفر عنه الأحداث الجارية، فاستقرارها يعني استقرار المنطقة، ودخولها في متن فوضى يعرض المنطقة لأخطار محدقة يريد الجميع تفاديها.

إن قلق غالبية المصريين يعزى بصورة رئيسة الآن إلى الأزمة الاقتصادية الآخذة في التردي، كما أن الخوف من تغليب برنامج الحزب الواحد، على برامج الآخرين هو الذي أدى لحشود المعارضة في الشوارع والميادين، وبات الآن على السياسيين ضرورة التوصل إلى حلول توافقية لنزع أي فتيل نزاع داخلي محتمل. فالتجربة الديمقراطية المصرية الآن على كف ميزان، نجاحها يعطي الضوء الأخضر، لتجارب عربية مماثلة، أن تمضي قدما نحو نفس المصير، وفشلها، يضع مزيدا من التحديات.. التي لا تحمد عقباها.