الجانب الرقيق في «المرأة الحديدية»

ماثيو فلندرز

TT

ربما كانت «المرأة الحديدية» أكثر ضعفا وعزلة مما يعتقد كثيرون؟ هل مر حقا ما يقرب من ربع قرن من الزمان على واحدة من أكثر اللحظات الفارقة في تاريخي السياسي؟ ما زلت أتذكر ذلك اليوم كما لو كان بالأمس، حيث عقدت ندوة سياسية على أعلى المستويات في الطابق الخامس لكلية سويندون في الثامن والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1990؛ وكان يوما مشرقا وصافيا، وفجأة فتح الباب وصرخ شخص ما يقول: «لقد رحلت! انتهى الأمر! لقد رحلت!». ولم يكن واضحا بالضبط بالنسبة لي من الذي رحل وما هو الأمر الذي انتهى، ولكن لم يكن الأمر يحتاج لقدر كبير من الفراسة حتى أدرك من ردود فعل الجميع من حولي أن فصلا متميزا من التاريخ السياسي البريطاني قد انتهى. وبعد مرور عقدين من الزمن، وكأستاذ للعلوم السياسية، أصبح لدي وعي أكثر وضوحا بشخصية ثاتشر وما كان يعتقد بأنه قد انتهى (أو ما لم ينته كما ثبت فيما بعد)، من حيث النهج المختلف للحكم، ولكن الإعلان عن وفاتها يعيدني إلى تلك الندوة وهذا الشعور الغريب بأن فصلا متميزا في التاريخ السياسي البريطاني قد انتهى.

ولكن ما الذي يمكنني أن أقول بعد كل الذي قيل بالفعل عن ثاتشر، التي كان والدها يملك متجرا للبقالة؟ ما الذي يمكنني أن أكتبه لكي أميز هذا النعي عن غيره من رسالات النعي التي لا تعد ولا تحصى التي يتم كتابتها في هذه اللحظة (أو بالأحرى استرجاع الملفات المعدة سلفا بسرعة كبيرة)؟ الإجابة على هذه الأسئلة لا تكمن في وضع الخطوط العريضة لملامح مسيرة ثاتشر السياسية فحسب، ولكنها تكمن أيضا في معرفة الأسباب التي جعلت النهج السياسي الذي تتبناه يثير ردود فعل قوية للغاية من هذا القبيل، وكيف نجحت في أن تؤثر على ماضي وحاضر ومستقبل السياسة البريطانية. وبناء على ذلك، يتعين إلقاء الضوء على ما لا يقل عن ثلاث قضايا مترابطة ومتشابكة هي – آيديولوجيتها وأسلوبها ونقاط ضعفها.

أولا وقبل كل شيء، نجحت ثاتشر في إقامة علاقة جديدة بين الدولة والسوق. ونظرا لأنها قد شهدت التجارب والمحن التي مرت بها حكومة هيث في منتصف السبعينات من القرن الماضي، ثم «شتاء السخط» في أواخر السبعينات من القرن الماضي، كانت ثاتشر مصرة على أن العلاقة بين الدولة والسوق يجب أن تتغير. وبداية من إصلاح الدولة إلى الحد من قوة النقابات العمالية، ومن الخصخصة إلى الإصلاح الاقتصادي، ومن الشؤون الأوروبية إلى بيع المباني التابعة للمجالس المحلية، فإن الشيء المؤكد هو أن ثاتشر قد حولت الاقتصاد السياسي لبريطانيا ليسير في الطريق الذي قد يعمل رؤساء الوزراء اللاحقون لها على تعديله، لا تغييره بشكل كلي. في الواقع، من الممكن القول بأن حالة الإجماع التي كانت على ثاتشر لم تعد موجودة بعد ذلك مع رؤساء الوزراء اللاحقين مثل ماجور أو بلير أو براون أو كاميرون. وسواء كان يتم النظر إلى ذلك على أنه شيء «جيد» أو «سيئ»، فالشيء المؤكد هو أن إرث ثاتشر قد ألقى بظلاله على القاصي والداني. وإذا كانت سياساتها تتسم بالتميز، فحدث ولا حرج أيضا عن أسلوبها السياسي المميز للغاية.

كانت السيدة الحديدية سياسية صاحبة مبادئ ورؤى خاصة، فكانت تؤمن بقدرة فلسفتها السياسية وقناعاتها الاقتصادية على إحداث تغيير اجتماعي إيجابي. بالنسبة لها لم يكن هناك من حل وسط، فإما أن تكون معها أو ضدها. وبدءا من كلمتها إلى حزب المحافظين في أكتوبر (تشرين الأول) 1980 ومرورا بكلمتها في مفاوضات الاتحاد الأوروبي، كانت كلماتها مدعومة في الأغلب بواقع سياسي لاحق.

بيد أن هناك حاجة إلى التعمق بشكل أكبر، ينبغي على النعي أن يظهر جوهر شخص لا أن يعيد ذكر إنجازاته (أو أخطائه). ولتسليط الضوء على آيديولوجية أو أسلوب ثاتشر - وحتى التعرض إلى الأشكال اللاحقة الكثيرة من الثاتشرية - فلن تضيف جديدا إلى تاريخ سياسي حافل. إن الانحراف أو النقد اللاذع في نهاية هذا العزاء ليس التركيز على ثاتشر كسياسية بل على السيدة ثاتشر الإنسانة بصفتها سياسية.

لقد كانت ثاتشر سيدة متميزة إلى حد بعيد لكنها منعزلة وضعيفة نوعا ما. ربما وصف السيدة الحديدية «بالضعيفة» وصفا مثيرا للسخرية بالنسبة للبعض لكن حتى أخيليس العظيم كان عقبه نقطة ضعفه. حقا فقد أظهرت ثاتشر - كما سأوضح - ثلاث نقاط ضعف محتملة في حياتها ثم يمكن استخدامها للتركيز بشكل أكبر على مسيرتها وإنجازاتها المتفردة.

بادئ ذي بدء ثاتشر سيدة نجحت في عالم الرجال، وأصبحت نائبة في البرلمان عام 1959 وأول سيدة تقود حزبا سياسيا بريطانيا كبيرا عام 1975 وأول سيدة تشغل منصب رئيس الوزراء عام 1979. ومن غير المؤكد أن يكون كونها سيدة قد أعطاها بعض الميزات عندما واجهت حزبا سياسيا تعلمت أغلبيته الساحقة في مدارس عامة يهيمن عليها جنس واحد، ومن ثم لم يكونوا مستعدين للتعامل مع امرأة قوية، لكنها جلبت معها نوعا من الاستثنائية والاختلاف. والمصدر الثاني للضعف نبع من حقيقة أن ثاتشر لم تكن «واحدة منهم»، فقد ولدت لمالك لمتجر للبقالة - تربت في شققته أعلى المتجر - ولم تولد في أسرة سياسية بريطانية جيدة وعظيمة. ويكمن حقا بين سطور أغلب السيرة الذاتية السياسية لثاتشر إحساس بأنها كانت دائما في حزب المحافظين لكنها لم تكن على الإطلاق جزءا أساسيا من حزب المحافظين ولم تلق على الإطلاق قبولا أو احتراما من كبار قادة الحزب أو أعضاء المؤسسة السياسية.

هذه مسألة بالغة الأهمية لأن مكانتها في الحزب وشعورها بالاغتراب عنه تساعد دون شك في تفسير نهجها في الإدارة وطريقتها في تعريف الأصدقاء والأعداء. العنصر الأخير في ضعفها، وأؤكد على ذلك، أصبح أكثر وضوحا مع ابتعادها عن عالم السياسة. فما أثار الدهشة بعد رحيلها عن مجلس العموم البريطاني في الانتخابات العامة عام 1992 - قائلة إن هذا سيمنحها المزيد من الحرية كي تعبر عما بداخلها - كانت الطريقة التي ابتعدت بها بشكل كلي عن الخوض في الشؤون السياسية. ربما يكون مرضها قد لعب دورا في هذا لكني أشعر أن هناك نوعا من العزلة السياسية والاجتماعية، وشعورا أنها لم تعد قادرة على الاستمرار وإحباطا من تعرض خطبتها «لا يوجد شيء مثل المجتمع» على الدوام إلى التحريف، وعدم رغبة أي شخص في سماع دفاعها. قد أكون مخطئا لكني في أعماقي لا يسعني سوى الاعتقاد بأن المرأة الحديدية كانت أكثر ضعفا مما كان الكثير منا يعتقد.

* أستاذ الإدارة والحكومة البرلمانية في جامعة شيفلد البريطانية