الحرب على إيران بعيدة.. والأسد مجرد ورقة

طريف الخياط

TT

تلقى النظام الإيراني ضربات موجعة في العامين الأخيرين. التطور الأبرز كان تخلخل نظام الأسد، الحليف الاستراتيجي الوحيد الذي يسيطر على دولة، ويقدم خدمات سياسية ولوجيستية لتعزيز نفوذ طهران في المنطقة. والأمر الآخر كان انحدار الاقتصاد الإيراني بسبب العقوبات الغربية على خلفية برنامجها النووي. ثم وجدت طهران نفسها غارقة في دعم الأسد المتداعي، رغم الأكلاف العالية المترتبة على ذلك، وهي ليست أكلافا مادية فقط، فمن المهم بالنسبة لدولة، كان هاجسها ولا يزال - منذ أيام حكم الشاه إلى اليوم - الاعتراف غربيا وعربيا بهيمنة ودور إقليميين، أن تحافظ على صورتها «الممانعة» لإسرائيل في نظر الشعوب العربية، التي من الممكن القول إنها خسرتها إلى غير رجعة. لكن، هل حقا تراهن طهران على استعادة الأسد للسيطرة على سوريا وبقائه في الحكم، أم أنه تحول إلى مجرد ورقة في ملفها النووي؟

تتطلب الإجابة عن السؤال تقييما واقعيا للستاتيكو الإيراني، ضمن المشهد الإقليمي والدولي، وبعضا من التاريخ القريب. وبداية بالاقتصاد، فالعقوبات الاقتصادية سببت أزمة خانقة، لكنها لا تعني انهيارا، وقد يتطلب الأمر عاما أو عامين مع استمرار الوضع الراهن كي يتفسخ الاقتصاد الإيراني. ويجب عدم إهمال المنافذ التي تسمح لطهران بالتحايل على العقوبات، وذلك عبر الحلفاء والشركاء التجاريين لطهران، ونشاط رجال أعمال إيرانيين يعقدون الصفقات نيابة عن الدولة، كما أن الاتحاد الأوروبي قد اضطر مؤخرا، ولدواع قانونية تقنية بحتة، حذف بعض البنوك والشركات الإيرانية المرتبطة بالملف النووي من قائمة العقوبات، ويبدو أن الجارة تركيا لا تجد نفسها مضطرة للإذعان لواشنطن بوقف تبادلاتها التجارية مع طهران، ما دامت الولايات المتحدة تنأى بنفسها عن التدخل المباشر في شؤون المنطقة، وخصوصا الملف السوري الذي يحتل مكانة حساسة لدى حكومة أنقرة.

ومن جهة أخرى، فإن واشنطن لا تبدو عازمة على حل عسكري للبرنامج النووي الإيراني، وفي حين أن الأخير هو الخيار المفضل لدى تل أبيب، فإنه ليس من اليسير أن تتحمل إسرائيل أعباء الهجوم المنفرد على طهران، وذلك لدواع كثيرة بعضها لوجيستي. ورغم الحديث الجاري عن إمكانية استخدام إسرائيل للأراضي الأذرية كقاعدة انطلاق لعملياتها الجوية، فعليها في المقابل مواجهة سيل متوقع من الصواريخ القادمة من حزب الله وقطاع غزة، والصواريخ المنطلقة من إيران نفسها ضمن حدود الرد المدروس الذي لا يستفز إسرائيل إلى المدى الأقصى. وفي مياه الخليج، فإن حربا إسرائيلية - إيرانية قد تدفع طهران لنشاطات معادية تتسبب في إغلاق مضيق هرمز، مستغلة التخفيض العسكري الأميركي البحري في تلك المنطقة، وهو ما لن تقبل به واشنطن، وقد لا تسمح بالتالي بعمليات من ذلك النوع. وعلى صعيد البرنامج النووي بحد ذاته، فإن أي ضربة عسكرية لن تنهيه مرة واحدة وإلى الأبد، بل ستؤخره لبضع سنوات مقبلة، حيث امتلكت طهران الخبرات والكفاءات العلمية المطلوبة لعملية التخصيب، وكانت قد بنت منشأة فوردو الرئيسة في عملية التخصيب تحت الأرض، بما يجعل من الصعب تدميرها كليا. ويضاف إلى العوامل التي تستبعد الحل العسكري، أن طهران ما زالت تحترم الخطوط الحمراء التي رسمتها إسرائيل، على أساس كمية محددة من كيلوغرامات اليورانيوم عالي التخصيب، تبقي طهران بعيدة عن تصنيع القنبلة النووية، وما إن يتم تجاوز تلك العتبة، تسارع طهران بتحويلها إلى وقود نووي لا يصلح للاستخدامات العسكرية.

إن استبعاد العمل العسكري في وقت قريب، كما الانهيار الاقتصادي السريع، يبقي لطهران حيزا ملائما للمناورة السياسية، لكن من موقع يشوبه الضعف، ويضطرها لاستئناف المفاوضات على ملفها النووي بروح جديدة. وذلك ما وجد ترجمته في اجتماعات «5+1» في ألمآتا. ورغم عدم حصول تقدم ملموس في تلك الاجتماعات، فإن مراقبين للشأن الإيراني قد التقطوا إشارات إيجابية توحي بجدية طهران في المسار التفاوضي، ورغبتها في البدء بمحادثات مباشرة مع الأميركيين طالما كانت تتوق لها، على عكس ما توحي به نبرة الخطاب السياسي المتعجرفة. ومن المتوقع أن تشهد المفاوضات تقدما بعد الانتخابات الإيرانية في منتصف يونيو (حزيران) المقبل.

ويبقى خطر الحرب مؤجلا طالما استمرت المفاوضات، لكن نتائج الأخيرة ليست مضمونة، وهناك إرث لتاريخ من الانتكاسات، كما أنها - اليوم كما في السابق - عرضة للعبث الإسرائيلي المباشر وغير المباشر. فلدى تل أبيب مخاوف ليست بالجديدة، من أن تقارب طهران مع واشنطن قد يتطور إلى ما يهدد بتخفيف أهمية إسرائيل كحليف استراتيجي رئيس في المنطقة، وينزع عنها عباءة الخطر الوجودي، الذي تتكئ عليه إسرائيل لحشد الدعم في الكونغرس الأميركي. ومن المفيد هنا، تأكيد أن العلاقة بين إسرائيل وطهران، علاقة تنافس إقليمي أكثر من كونها حالة عداء، فتاريخ التعاون بين البلدين يتجاوز حقبة الشاه إلى حقبة ما بعد الثورة الإسلامية، وهي علاقات توصف - في العقدين الأخيرين - بمصالح تجارية. كما دأبت إيران على استخدام القنوات الخلفية غير الرسمية مع إسرائيل، في أكثر من محاولة للتوصل إلى تسوية مع واشنطن، وطمأنة إسرائيل من النوايا الإيرانية.

ويبقى السؤال المهم: ما خطوط الحد الأدنى، التي من الممكن أن تقبل بها إيران في مسار تفاوضي؟ ولعل في ذلك ما يعيدنا إلى 2003 - عام الحرب العراقية التي تعاونت فيها طهران مع الأميركيين كبادرة حسن نية، وقدم بعدها رفسنجاني (الرئيس الإيراني حينها) ورقة إلى واشنطن، صدق عليها المرشد علي خامنئي، عرضت فيها طهران سلة متكاملة، من ضمنها نزع سلاح حزب الله وتحويله لحزب سياسي، ووقف دعم حركتي حماس و«الجهاد الإسلامي» في غزة، والأهم قبول طهران بعمليات تفتيش دولية غير مقيدة من أجل إزالة أي مخاوف من برنامجها النووي، مع إمكانية المشاركة الأميركية في البرنامج كضمانة إضافية، وذلك في مقابل الاعتراف بحق طهران في الحصول على التكنولوجيا النووية، والاعتراف بالمصالح الإيرانية في مجال «أمن واستقرار المنطقة»، واحترام مصالحها «القومية» في العراق، وإنهاء العقوبات، ووضع حد للخطاب المعادي بين البلدين.

لقد كشفت تلك الرسالة براغماتية النظام الإيراني الذي يستخدم الدين والخطاب المعادي لإسرائيل كأداة للهيمنة، وليس كمحرك للسياسة الخارجية. إلا أن إدارة بوش المزهوة بانتصارها في العراق، تجاهلت في حينها ذلك العرض. أما إدارة أوباما، فيبدو أنها تراقب الضعف الإيراني، وتعتبر الحرب في سوريا استنزافا لطهران، وقد تطمح إلى الحصول على عرض مشابه، يطرح على الطاولة.

وبالعودة إلى شأن النظام السوري، فإن طهران باتت تدرك استحالة استعادة السيادة على الأراضي السورية كافة، وهي تعد العدة لخلق البدائل على حساب استقرار سوريا ووحدة أراضيها، وفي المقابل، فإنها تحاول تطبيع علاقتها مع دول إقليمية كمصر، مستفيدة من العلاقات التاريخية بين جماعة الإخوان المصرية ونظام الثورة الإسلامية. أما رهاناتها فتنحصر مرحليا، في إطالة عمر نظام الأسد قدر الإمكان، والسعي لتغذية اضطرابات في منطقة الخليج فشلت فيها حتى الآن، وذلك ريثما يتم التوصل إلى اتفاق يحفظ ماء الوجه. وإذا كانت طهران عام 2003 قد قبلت برفع الغطاء عن حزب الله، فإنها قد تقبل برفع الغطاء عن نظام الأسد المتداعي، ضمن صفقة متكاملة، تضمن في جزء منها مصالحها في سوريا، ليتحول بشار الأسد من حليف استراتيجي، إلى مجرد ورقة تكتيكية، ضمن حسابات المصالح الاستراتيجية الإيرانية.