مالي.. حقائق في أفق الانسحاب

عبد الله ولد محمدي

TT

انتهت العمليات القتالية الكبيرة في الشمال المالي ، وحزم الفرنسيون أمتعتهم استعدادا لسحب العدد الأكبر من جنودهم مستفيدين من الزخم الإعلامي لانتصاراتهم السريعة علي الجهاديين. الدافع الاساسي لاعلان الانسحاب هو المخاوف من الدخول في حرب استنزاف قتالية ومالية قد تكلف الفرنسيين على الصعيدين العسكري والاقتصادي ،وهربا ايضا من الطقس الذي يمثل العدو الآخر للجيش الفرنسي ، في منطقة تعرف بانها الأكثر حرارة في العالم. ما كان يآمله الجيش الفرنسي تحقق بنسبة مهمة،فقد تحررت معظم مدن الشمال المالي من سيطرة الجماعات الإسلامية المسلحة، وتم القضاء على نسبة معتبرة من المقاتلين بما فيها بعض قادتهم ، وتمت مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد وسط بهرجة احتفالية تحت عدسات وسائل الإعلام الفرنسية. وبعيدا عن عيون الإعلام وانتصارات الجيش التي يحتاج إليها الرئيس فرانسوا هولاند في الرفع من شعبيته المتدنية في فرنسا، تطرح مجموعة من الأسئلة المشروعة والملحة مثل هل انتهت المهمة حقاً؟ وكيف يمكن المحافظة علي هذا الوضع ؟ والي أي مدى؟ الشهر الماضي صرح الرئيس التشادي إدريس ديبي ان قواته ستنسحب هي الأخرى من الشمال المالي مبررا ذلك بان جيشه أدى المهمة المنوطة به ولكنه في نفس الوقت غير جاهز لمواجهة حرب عصابات تستنفز قوته . ديبي كان يتحدث بعد العملية الانتحارية التي استهدفت قواته عند بوابة مدينة كيدال في الشمال المالي، والتي أفقدت التشاديين أعصابهم بعد مقتل ثلاثة من زملائهم وكادت تتحول الى معركة مع جميع سكان المدينة بعد ان فتح الجنود نيرانهم في شوارعها بطريقة عشوائية على كل من هب ودب .

غياب قوات ذات تجربة قتالية كالفرنسيين والتشاديين يصعب تعويضه وان كانت الدبلوماسية الفرنسية تبحث في الجوار عن من يكمل المهمة. فمنذ أسابيع والمبعوثون الفرنسيون يتوافدون سرا آو علنا على العاصمة الموريتانية ، والندوات البحثية والاجتماعات الإقليمية تتوالى تباعا في نواكشوط لبحث الأزمة المالية وتطوراتها ، هذا في العلن، فيما يدفع في الخفاء بما هو أعظم ، إذ يراد للجيش الموريتاني ان يحل محل الجيش التشادي وبمساعدة لوجستية من الفرنسيين . وبدون إظهار الحبكة الاحترافية لهذه الصفقة سارع وزير الخارجية الفرنسي للتصريح علنا انه جاء الى نواكشوط لتوقيع اتفاقيات لمساعدة موريتانيا في التكوين المهني والانارة العمومية ، وهو ما جلب تعليقات الإعلام الموريتاني المتسائلة عن ماذا يمكن لفرنسا تقديمه في زمن الأزمة ان لم يكن وراء الأكمة ما وراءها ؟ ! باتت مسألة مشاركة موريتانيا محسومة تحت واجهة القبعات الزرق التي حلمت السلطة كثيرا بالمشاركة فيها ، بحثا عن رصيد سياسي وإعلامي في المنطقة ، لكن دون ان تجد دعما من الجبهة الداخلية التي حذرت أكثر من مرة من مغبة التدخل في أتون الحرب في الشمال. وجود الجيش الموريتاني الذي خبر الحرب في دروب الصحراء لا يضعه في مأمن من حرب استنزاف، حتى ولو كان صاحب تجربة سابقة في القتال في المنطقة ، إذ هي ذات المبررات التي دفعت جيش إدريس ديبي للرحيل. في تلك المنطقة الصحراوية الشاسعة تتداخل عوامل الأزمة وتتوسع ، فلا يزال بوسع الجهاديين التحرك في المناطق الحدودية مع الجزائر ، ولعل آخر ها ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية على لسان ضابط مالي كبير من ان مقاتلي حركة التوحيد والجهاد عادوا الى قواعدهم في مخيمات جبهة البوليساريو جنوب الجزائر. ودون النظر بعيدا، يبدو المشهد العام مشوشا ومتداخلا،إذ من الصعب النظر الى حل في الشمال المالي دون رؤية شاملة لحل أكبر لمشكلة وجود آلاف المقاتلين المدججين بالأسلحة على امتداد صحراوي واحد،يمتد الى الجنوب الجزائري ، ولا تحده أي حدود وتتداخل فيه القبائل والمصالح والرؤى العقائدية المتشددة . لقد خلقت فرنسا،وهي تقود عمليتها العسكرية دينامية داخلية تعيد تكرار أسباب تدخلها،وهي بذلك تكرر ذات الأخطاء التي رافقت الاستعمار قبل أكثر من خمسة عقود ، حين اعتمدت على من يوافق مزاجها العام، مصدقة ما يقدم إليها كونه الحقيقة. وسيرتكب المجتمع الدولي ذات الأخطاء في المحافظة على ما تحقق في المنطقة،حين ينظر الى الشمال المالي نظرة جزئية متلافيا حقائق الجغرافيا والتاريخ والانتروبولوجيا التي تجزم ان منطقة الصحراء الكبري هي منطقة واحدة لا يمكن للحلول فيها ان تتجزأ ، وانه حين تعطس « تمبكتو» تصاب «تيندوف « بالزكام.

*كاتب متخصص في الشؤون الأفريقية وفي منطقة الساحل