تركيا.. إرباك المراقبين

سعد بن عمر

TT

منذ 14 مارس (آذار) 2003 وحزب العدالة والتنمية يحكم تركيا، والذي أصبح مضرب مثل للحكم الرشيد وإدارة الدولة، والقوانين التشريعية التي استطاع تعديل الكثير منها بيسر وسهولة، وبالتدرج، من دون أن يثير الشارع والأحزاب المعارضة للاعتراض عليها. وفي مجال العلاقات الخارجية، وصلت العلاقات التركية مع دول الجوار إلى تحسن لم يحدث لتركيا الحديثة منذ نشأتها عام 1923، واعتمد المبدأ الشهير لرجب طيب أردوغان في سياسته الخارجية (صفر مشاكل) مع دول الجوار، واستطاع أن يحقق من التكامل الاقتصادي مع الجارة سوريا ما جعل التجارة البينية ترتفع إلى درجة أذهلت المراقبين الاقتصاديين، كما أن سياسته تجاه العراق أثناء الغزو الأميركي جعلت من العراق بوابة اقتصادية إلى تركيا. وعمل على حل القضايا العالقة مع أرمينيا وأذربيجان والجمهوريات السوفياتية السابقة، بل خطا تجاه حل المشكلة الكردية بكل شجاعة، مما خلق استقرارا في الشرق التركي، بدت ظلاله على بقية أنحاء الجمهورية التركية، وأضحت اللعبة الديمقراطية في تركيا وحزب العدالة مثلا وقدوة لنجاح الأحزاب ذات التوجه الإسلامي؛ إذ استطاع اكتساح الانتخابات التركية والفوز فيها بممثليه رجب طيب أردوغان ورئيس الدولة عبد الله غل لثلاثة انتخابات متتالية، وقد اجتذب حزب العدالة والتنمية المواطن والناخب العربي بعد فترة التغيرات السياسية في بعض دول العالم العربي خلال عامي 2011 و2012، مما حدا بكثير من الناخبين العرب في الدول التي جرت فيها انتخابات بالتوجه بأصواتهم إلى الأحزاب الإسلامية وأمام كثير منهم حلم تجربة حزب العدالة والتنمية التركي.

وتركيا في تشكيلتها العرقية والمذهبية تشبه سوريا في فسيفسائها الطائفي والإثني، وهي النسخة السورية للمذاهب والقوميات مضروبة × 2. تضم تركيا 74 مليون نسمة تقريبا حسب تقديرات 2011، يبلغ عدد الأكراد نحو 20 مليون نسمة، كذلك هناك تقديرات بأن في تركيا من 15% إلى 20% من السكان من الطائفة العلوية، وهناك الأرمن والعرب والمسيحيون من الطوائف القديمة والصغيرة كالأشوريين، والكلدانيين، بالإضافة إلى قلة من اليونانيين والبلغار.

عقب الأزمة المالية التي ألمت بتركيا عام 2001 ، تدهورت الليرة التركية، وفي خضم انشغال الشعب اقتصاديا خلال السنين التي تلت وصول حزب العدالة إلى السلطة ارتفع معدل الإنتاج والتصدير، وزاد دخل الفرد التركي إلى درجة من الرخاء الاقتصادي لم يعهده الجمهور التركي من قبل. إلا أن الأزمة السورية، التي كانت سوريا قبل ذلك، بالإضافة إلى العراق وإيران، منفذا للمنتجات التركية، إما استهلاكا أو معبرا إلى دول الخليج العربي، قد أضرت بالاقتصاد التركي ضررا خيم بظلاله على الشارع التركي، سواء نتيجة البعد الاقتصادي أو من خلال البعد المذهبي والنقد السياسي لتغير السياسة التركية من تصفير المشاكل إلى تكالب التعقيدات للمسألة السورية وامتداد توابعها تركياً إلى العراق وإيران ولبنان وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا مثل أذربيجان.

إن الإعجاب الشعبي التركي بحزب العدالة والتنمية تغير خلال فترة قصيرة جدا نتيجة ارتدادات الأزمة الاقتصادية، وهي المعيار الحقيقي لعقلية الناخب التركي وتحديد البوصلة الرئاسية؛ فالمعابر الحدودية مع سوريا أغلقت أمام عبور التجارة، ولكنها لم تستطع إيقاف تصدير الأزمة من سوريا من خلال هذه المعابر، فتفجيرات الريحانية والمظاهرات التي اندلعت قبل يومين لم تكن تختص بميدان (تقسيم) في مدينة إسطنبول فقط، بل شملت جميع أنحاء تركيا، وكأن الأمر كان يحتاج إلى شرارة لإشعال الأزمة.. والمفاجأة التي لم يتوقعها المراقب، أن المظاهرات أتت بكثافة عالية وبتلقائية وفي جميع المدن التركية، وهي رسالة ومقياس ترمومتري لموقع تركيا السياسي من الأزمة السورية وللحياة الاقتصادية والاحتقان السياسي على مستوى الشارع التركي، الذي استطاع الرخاء الاقتصادي إخفاءه طوال السنين الماضية لحكم الحزب.. إضافة إلى تراكم القرارات التشريعية لحزب أردوغان في البرلمان طيلة الفترات الثلاث لحكمه، وادعاءات الأحزاب المناوئة بأن حزب العدالة والتنمية يغير الواقع في تركيا إلى دوله إسلامية خالصة. كل هذه وتلك جعلت كثيرا من الأحزاب تتأهب للشرارة التي يمكن أن تعمل من خلالها ما عجزت عنه في صندوق الانتخاب، فهل يتجاوز الحزب بالحكمة هذه الأزمة أم يخسر الانتخابات المقبلة القريبة وتمتد المظاهرات لتغير في واقع الخريطة السياسية الحالي...

* كاتب ومحلل سياسي سعودي