الألقاب العلمية.. بين الوجاهة الاجتماعية والإضافة العلمية

د. خليل أبو قورة

TT

يطالب حملة درجتي الماجستير والدكتوراه في مصر بتعيينهم في الوظائف الحكومية، وهي مطالب عادلة ومشروعة، فجميع دول العالم تحترم وتقدر الكفاءات من أبنائها المتفوقين والمتميزين وتستفيد منهم في نهضتها وتقدمها. ولكن القضية الواجب طرحها للمناقشة هي أن هناك حالياً في عالمنا العربي، أعداداً كبيرة ومتزايدة تتجاوز الآلاف من الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه والألقاب العلمية الجامعية الأخرى (مدرس، أستاذ مساعد، أستاذ) في العديد من مجالات العلم والمعرفة. ولكن رغم ذلك لا يزال لدينا تأخر علمي كبير، الأمر الذي يفرض ويطرح سؤالاً في غاية الأهمية وهو: هل إجراء البحوث والحصول على الدرجات والألقاب العلمية، هو فقط بهدف الترقي والوجاهة والمكانة الاجتماعية؟ وأيضاً التساؤل عن جودة هذه البحوث والرسائل العلمية، وهل تمثل إضافات ومساهمات علمية ومعرفية حقيقية تفيد المجتمع والوطن؟ وكذلك التساؤل عمن يحملون شهادات عليا وهمية مزيفة، وخطورتهم على الأفراد والمجتمع؟

لم يعد الكثيرون في عالمنا العربي يكتفون بالحصول على الدرجة الجامعية الأولى المتمثلة في البكالوريوس أو الليسانس، فهناك أعداد كبيرة تسعى للحصول على الدرجات العلمية العليا، كدرجة الماجستير والدكتوراه، بأيسر وأسرع السبل وأقصر الطرق، وتمنح الدرجة وتبقى بحوثهم ومشاريعهم البحثية حبيسة الأدراج وعلى أرفف المكتبات تغطيها الأتربة، من دون أن يستفيد منها المجتمع. ولكن، يمكن القول بأن هناك نوعين من البحوث والرسائل العلمية الجامعية التي جرى إعدادها في عالمنا العربي، فبعضها بحوث جادة ورصينة ودقيقة في منهجيتها العلمية، تكلفت الكثير من المال والجهد والوقت، والبعض الآخر، يمكن القول بأنها رديئة الجودة والنوعية، لا يمكن الاستفادة منها، فكان هدف أصحابها، هو فقط الحصول على الدرجات والألقاب العلمية بأيسر وأسهل الطرق وأقل الجهد والمال وفي موضوعات علمية مستهلكة بحثياً.

ولعل السؤال المهم المطروح، هل لدينا بالفعل خطط وإستراتيجيات فعالة لتسويق البحوث والرسائل الجامعية الجادة، للاستفادة منها في مشاريع استثمارية وتنموية تفيد المجتمع والوطن، لتحقق بالفعل في النهاية نهضة علمية حقيقية؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن يستشعر المجتمع أن قيمتنا ومكانتنا لن تتحقق في عالم اليوم إلا بتقدير قيمة العلم والعلماء وأهمية البحث العلمي الجاد، كما أن البداية الحقيقية لتحقيق القيمة التطبيقية للبحوث والمشاريع العلمية، تكمن بداية في خطط وبرامج الدراسات العليا بالجامعات، فمن الضروري أن ترتبط خطط تسجيل الطلاب باحتياجات وحاجات المجتمع والوطن، حتى لا تكون بحوث ورسائل تقليدية مكررة ومستهلكة، فالملاحظ أن كثيرا من الباحثين يقوم بالتقليد التام للبحوث المنشورة بالدوريات العلمية، حيث لا تخرج بحوثهم عن تغيير في المصطلح أو تأثير مثلاً عامل أو متغير العمر أو الجنس أو الحالة الاجتماعية، ليسهل عليهم إتمام وإنهاء دراستهم بسرعه وسهولة، الأمر الذي يجعلها في النهاية بحوثا تقليدية مكررة ذات نتائج قليلة القيمة والأهمية، لا تضيف جديداً للمعرفة العلمية، وهناك فئة من أساتذة الجامعات الذين يمارسون سلطتهم وسطوتهم في الإشراف على الرسائل الجامعية، حيث يشرفون على أعداد كبيرة من الطلبة الباحثين، وقد تنقصهم الخبرة العلمية والبحثية، الأمر الذي يعوق متابعتهم وتوجيههم للطلاب وتخصيص الوقت الكافي لهم.

ويجب الإشارة الى أنه في الدول المتقدمة، ليس جميع أساتذة الجامعات من الحاصلين على درجات الدكتوراه، فهناك أساتذة بلا دكتوراه، إلا أنهم متميزون في أبحاثهم وخبراتهم في مجالات بعينها، بينما في عالمنا العربي نسأل أولاً عند التعيين في الوظائف الشاغرة عن الدرجة والرتبة العلمية للمتقدم لشغل وظيفة عضو هيئة تدريس بالجامعة على سبيل المثال، بينما الدول المتقدمة تقدر أبناءها على أساس ما يقدمونه من أعمال وأفعال مهما صغرت، فالعبرة ليست بكم البحوث والدراسات وإنما بقيمتها وجودتها.

وينبغي القول بأن هناك لدينا بالفعل في عالمنا العربي العديد من النماذج والكفاءات العلمية الجامعية الرفيعة المستوى والمتميزة في العديد من مجالات العلم والمعرفة، التي قدمت إضافات علمية ومعرفية حقيقية شهد بها الجميع في الداخل والخارج. وينبغي التأكيد في النهاية على أهمية تحويل الجامعات العربية الى مراكز وبيوت خبرة للاستشارات العلمية، بحيث تتحول البحوث والدراسات والأفكار الجادة للباحثين، الى مشروعات وآليات عمل تسهم في وضع حلول للمشكلات القائمة وتنهض بمجالات التنمية المختلفة في المجتمع، وذلك من خلال التوسع في إنشاء وحدات لتسويق البحوث بالجامعات، تكون بمثابة حلقة اتصال وتواصل بين نظم الدراسات العليا ومراكز البحوث بالجامعات، ومؤسسات وهيئات المجتمع المعنية بهذه البحوث، ويمكن للمؤسسات أن تقدم للجامعات قائمة بإحتياجاتها من موضوعات بحثية أو مشكلات تواجهها وتتطلب حلول معينة، مع تنظيم لقاءات بصورة دائمة بين الباحثين والمستثمرين للتعرف على البحوث والمجالات ذات الاهتمام المشترك، والتي تحتاج إلى تعاون ودعم مستمر، الأمر الذي يحقق في النهاية التلاحم والتواصل والاتصال التام بين الجامعات والمجتمع، ومن المهم أيضاً العمل الجماعي والتعاون في البحث العلمي، أي العمل البحثي بروح الفريق، ضمن مجموعة علمية بحثية متنوعة ومتكاملة برئاسة أستاذ متميز وخبير، سواء من داخل جامعته أو من خارجها، حتى يمكن في النهاية إنجاز بحث علمي متكامل متميز، ذي قيمة ومكانة وطنية وعالمية، يمثل إضافة علمية للمعرفة الإنسانية.

* كاتب وباحث مصري متخصص في الشؤون التربوية والنفسية